ظل تغير الأداء في الفضائية اليمنية بالنسبة لمعظم اليمنيين من المؤشرات المعززة للثقة بجدية ومصداقية التحول. هذا التأثير الحاسم للفضائية انعكاس لطبيعة الدور الروتيني الذي ظلت تؤديه كجهاز دعائي للحاكم وحزبه، ومنبر حرب وتحريض ضد قوى المعارضة ودعاة التغيير. كانت قناة مقفلة لا تسمح بسوى إبراز وإظهار ما يروق المزاج السلطوي ويطامن الغرور المستبد.
مرات عديدة اتصلت بالأستاذ العزيز أنيق الروح والمظهر حسين باسليم رئيس القطاع كي أشكره وأحيي الزملاء معه على برامج حية متعددة فرضت نفسها عليّ، ودفعت بي على نحو صاخب لإبداء إعجابي وابتهاجي بها وتقديري لمهنيتها وموضوعيتها وتلبيتها لاحتياجات الوعي المجتمعي العام الراهن.
"ملفات ساخنة" الذي قدمه ضمن الخطة البرامجية العام المنصرم الزميل صدام حسن لامس أوجاعاً عديدة في قلب الوطن وجسده المثخن، وناقش بصراحة العديد من قضايا الفساد التي أسهمت في تأجيج السخط العام وتفجير الأوضاع في اليلاد.
"أعلام صنعوا تاريخ اليمن" وثائقي ومن أفضل مواد المرحلة، يعيد الاعتبار لذاكرتنا الوطنية المتصدّعة ويحتفي بالرموز الجامعة التى ظلت طويلاً هدفاً للحرب السلطوية الظالمة وحملات الإساءة والتشهيروالتجريم والنكران والإبعاد، احتفل البرنامج بقامات وطنية رائدة: سالم ربيع علي، قحطان الشعبي، عبد الرزاق باذيب، محمد علي هيثم، القاضي عبد الرحمن الإرياني، الشهيد جار الله عمر، أبو الأحرار الزبيري، شاعرنا الكبير عبدالله البردوني.. وسواهم من الأحياء في ضمير الوطن ووجدان الأجيال المتلاحقة.
هذا البرنامج الدافئ والأثير من إعداد الزملاء باسليم وعبد العليم الزمر وسمير خليل معداً ومخرجاً بُثّ منه 47 حلقة بحسب إدارة القناة مكنتنا من لملمة أجزاء حميمة من ذاكرتنا الوطنية التي امتدت إليها يد الهدم وسياسات التغييب الممنهجة.
وقد تابعت العديد من الحلقات وفيها اشتغال جاد وجهد واضح ومواد أرشيفية لافته وسفر للكاميرا في دروب الحنين لاستنطاق الأمكنة وتتبع وهج البدايات ومراحل التشكل.
ومن جديد الخارطة الحالية البرنامج اليومي الحي المباشر واللافت مضموناً وإخراجا "شؤون البلد" ويعكس بالنسبة لي حالة إبداعية متفجرة وتوقاً عارماً للتواصل الخلاق. الحساسية الفنية المكبوتة تفصح عن نفسها في هذا البرنامج بصورة لا تخطؤها الروح. الحركية والرهافة والعفوية والتلقائية والصدق والحرية العالية بعض مما يمنح شؤون البلد جاذبية خاصة تشدك اليه بكثير من الاهتمام.
يتشارك التقديم والإعداد طاقم كبير وعلى رأسهم المبدع جميل عز الدين ونادر أمين والزميلة العزيزة ليلى الربيع التى تغادر "البغدادية" وتعود من القاهرة لتضيء شاشة الفضائية من جديد ولتضيف اليها بإطلالتها البهية الآملة وبروحها المفعمة بالثورة الكثير من الألق والإشراق.
وهناك برنامج آخر أسبوعي مباشر يقدمه الزميل ذو الحضور الهامس والشفيف خليل القاهري ويخرجه سامي حزام وهو "حوار المستقبل" ويعد من علامات التحول البارزة.
ولا أنسى البرنامج الاجتماعي "كلام الناس" الذي يقدمه الزميل محمد المحمدي، وله جمهور واسع، ولي عليه بعض ملاحظات تتعلق باللغة والرؤية، إذ كثيراً ما يستخدم الفقير وهوالحلقة الأضعف كمادة لاستثارة الشفقة وعلى نحو يغدو معه موضوعاً عارياً للسؤال. كما أن التعامل مع قضايا الفقر بهذا الأسلوب يسطح المشكلات ويحولها الى مواضيع خيرية ومجرد فعل إحسان والقضية أكبر من ذلك وتستدعي وقفة أطول وأعمق من هذه الإشارة.
ما تنجزه الفضائية خطوات مهمة على طريق المطلب المستقبلي الأهم، وهو إعادة هيكلة وتنظيم وسائل الإعلام المملوكة للدولة ضمن استراتيجية تغيير شاملة تخرجها من وضعيتها الإشكالية، وتحررها من السيطرة الحكومية والحزبية تماماً، بحيث تصير معبرة عن المواطن والوطن وللمغترب معالجة جيدة يمكن الاستفادة منها في هذا الاتجاه.
وحتى ذلك تثبت التجربة القصيرة إمكانية إعادة الاعتبار للإعلام الرسمي بمختلف وسائله إذا وجدت الإرادة وصدق العزم وتحدد التوجه.
تثبت التجربة أن الحرية هي الشرط الأساس لوجود اعلام قوي وفاعل ومؤثر وأن بمقدور الإعلامي أن يقدم الكثير إذا أدرك حدود مهمته ومهنته، وأنه يفشل ويخسر عندما يمنح السياسي والحزبي فيه أن يتقدم على المهني والمبدع والفنان. مأزق الإعلامي في هذه الوسائل أنه كان يندب لأداء مهام سلطوية مختلفة ليس من بينها الإعلام وهو ما كرّس خسران هذه الوسائل لسلطتها الحقيقية في المجتمع.
ومعها كان النظام يخسر سلطته التي لا يمكن أن تنهض على إعلام مضلل يزيف الحقائق، ينتقي الصورة ويجمّل القبح ويروّج للفساد ويدافع عن التخلف والاستبداد.
ما هو واضح أن تغييراً ملحوظاً حدث ويحدث في المؤسسة الإعلامية الرسمية بوسائلها المتعددة منذ تولي العزيز الأستاذ علي العمراني قيادة وزارة الإعلام، وأشهد أنه خاض مغامرة كبرى في هذا السبيل واضعاً حياته على المحك ومن القليل أن يقال له أحسنت. صرنا نشاهد ونسمع ونقرأ جديداً وأننا بانتظار الأجد والأحسن.