على بُعد مائة وعشرين كيلومتراً غرب صنعاء كانت وجهتنا إلى محافظة المحويت اليمنية، نشق طُرقاً وعرة وجبالاً شاهقة، حتى وصلنا إلى منطقة تسمى «بيت الترك»، وإلى جانبها قرية أخرى تسمى «بيت الكُرد»، يقطنها حوالي 2500 نسمة. طالب أهالي منطقة بيت التركي في مديرية المحويت السلطات التركية أن تمدهم بمشروع مياه يسدّ رمق حياتهم، وأكد الشيخ محمد علي التركي، أحد أعيان القرية، على ارتباطهم بهويتهم التركية واليمنية، وقال: «إننا هنا نحمى ثقافتنا، نعيش منذ مئات السنيين، وقبور أجدادنا الأتراك مازلت قائمة بين منازلنا، وطلبنا الوحيد هو توفير سد لمياه الشرب».
ويشتكي العزلة التي تعيشها القرية «فنحن هنا معزولون بين تجاهل الحكومة اليمنية وبين وعود إخواننا الأتراك الذين زارونا عدّت مرات إلى القرية وخلفوا وراءهم وعودا لم تجد طريقها للتنفيذ حتى اليوم».
وعن تاريخ القرية، قال الشيخ محمد علي التركي للمصدر أونلاين «إن مثقال بن إبلاغ التركي ومصطفى حكمت باشا وعلي باشا كانوا أول من سكنوا المنطقة جاءوا لإخراج البرتغاليين من اليمن، وعاشوا وماتوا فيها، تاركين خلفهم أحفاداً لم يبق منهم شيء يدلّ على أصولهم التركية، إلا ملامح الوجه والعيون الخُضر وطول القامة».
وبصوت أنهكه الفقر وتظهر منه نبرة الاعتزاز بأصولهم التركية، يحدثنا حميد التركي، مدرس في نهاية الثلاثينيات من عمره، بكثير من المعلومات عن أجداده الأتراك، كيف حكموا؟ وكيف عاشوا؟ محتفظا بالكثير من الوثائق التي توارثها عن آبائه وأجداده، فوجدنا أن عمر تلك الوثائق ما بين 300 إلى 400 عام، تتحدث في معظمها عن حدود القرية، وناسها وحصونها ومساجدها وأملاك من الأراضي الشاسعة.
القرية بُنيت على الصخور في أعالي الجبال، توقفنا أمام الحصن الوحيد الذي يُشرف على القرية، وحارسها حتى اليوم شاهد على عصر الأتراك الذين مروا من هنا يوماً، ولم يبق من ملامحه هو أيضا إلا بعض النقوش على أبوابه العتيقة وشعار الخلافة العثمانية. اتجهنا بعد ذلك إلى مسجد القرية الوحيد، فوجدناه هو الآخر يحتفظ ببعض تلك النقوش العثمانية المزينة على أسقفه.
وفي حديثنا مع أحمد التركي، أحد أعيان القرية: هل زارتكم جهات تركية؟ يقول «لم يكن أحد يعرفنا لا من الأتراك ولا من اليمنيين، حتى زارنا رجل أعمال تركي بمحض الصدفة، كان ماراً من أمام القرية وقرأ اللوحة على الشارع العام، وأخبرنا أن نذهب إلى السفارة التركية في صنعاء، فكان ذلك، وبعدها بدأت الزيارات تتوافد علينا من السفارة، وحتى القادمون من تركيا من سياسيين وباحثين». ثم أخذنا شيخ القرية إلى «الديوان» المخصص لاستقبال ضيوف القرية، وهو ملك للجميع، يستخدمونه لمناسباتهم المتنوعة، وعندما دخلنا وجدناه قد مُلئ بأهالي القرية، وما لفت انتباهنا الصور المعلقة على جدرانه للوفود الزائرة من تركيا، وصور لبعض سلاطين الدولة العثمانية وأتاتورك، وصور للرئيس التركي عبدالله جل الذي التقاهم في زيارته الأخيرة لليمن العام 2010.
جلسنا إلى جانب الشيخ، فهو يختار من يتحدث معنا، فاختار لنا خالد راجح التركي قاضي القرية، ورغم أنه في منتصف الأربعينيات إلا أنه يحفظ الكثير من تاريخ القرية.
يقول خالد «لقد تعلمنا حكمة من آبائنا، ألاّ نترك المنطقة الذي يموت فيها آباؤنا؛ لنحافظ على وجودنا، ونحن أكبر دليل على ذلك، تجدنا اليوم مازلنا نحافظ على لقبنا التركي»، مضيفاً «ما زلت هناك بعض النقوش، وبعض العادات، وبعض الكلمات التركية؛ مثل الأعداد والإجابة بالنفي (يوك)، والقبول (ايفت)، والحرف اليدوية».
وفي حديثنا عن الحفاظ على هوية القرية، يقول خالد التركي «إن القرية مازالت تتزاوج فيما بينها، وحالات نادرة أن تتزوج المرأة إلى خارج القرية، فجميع أهالي القرية يعيشون بلقب واحد (التركي)». ولكنه فاجأنا، وهو يتحدث معنا، بقوله «لقد زوجنا في حالات نادرة أناس من القرية المجاورة التي تسمّى بيت الكُرد»، وفي سؤالنا عن هذه القرية، ومن أين جاءوا؟ يقول خالد التركي «إنهم من أصول كُردية كما يتحدثون».
لم نتمكن من زيارتهم لصعوبة الطريق ووعورتها، لكنهم أخبرونا أن شيخهم علي محمد الكردي يزور قرية الترك باستمرار، ويجلس إلى شيخهم، ويتداولان الحديث عن أحوال القريتين. ويقول خالد التركي «لم تشهد القريتان أي نزاع يُذكر على مدى سنوات طويلة، عكس ما يحدث في القرى المجاورة، وفي بعض القرى عموماً، من ثارات ونزاعات على الأراضي».
وقال علي الخياطي، مدير مكتب الإعلام بمحافظة المحويت، «إن الأتراك دخلوا إلى منطقتنا مع أول حملة عثمانية في القرن السادس عشر، وبقي جزء كبير منهم في هذه المناطق»، مضيفاً «لقد كان الأتراك يدينون بالولاء للدولة العثمانية في فترة عيشهم في اليمن، وحتى زكاتهم كانت تُرسل إلى اسطنبول حتى نهاية الخلافة العثمانية، بعد ذلك تحوّلت إلى الحُكام الأئمة في اليمن».