في ندوة شعرية نظمتها ساقية الصاوي بالتنسيق مع معهد "غوته" ، القاهرة، قبل عامين .. قلتُ : قيل في وصف بلدي "تجد تحت كل حجرٍ شاعراً". بيد أننا لم نلبث أن اكتشفنا أمراً آخرَ. ففي بلدي تجدُ فوق كل شاعرٍ حجراً! في أبريل 2006 انعقد ملتقى صنعاء الثاني للشعراء الشباب العرب. شارك في الملتقى، بحسب الإحداثيات البيانية، قرابة 360 شاعراً أربعة أخماسهم من اليمن. وبرغم أن الملتقى كان معدّاً، في الأساس، للنص الجديد إلا أن ما حدث لم يكن جديداً، كما أن النص ذاته لم يكن مطابقاً للشروط التي أسست فكرة الملتقى. قيل آنئذٍ: من المتكهّن به أن سبب هذا الاختراق هو أن ما يربو على 20 نصّاً ،من تلك التي لا تتواءم وفكرة تنظيم هذا الملتقى الشعري، كانت في مديح حارس الثقافة واللغة العربية، وزير الثقافة اليمني، الذي لم يعد كذلك منذ أن غادر الوزارة!
في تلك الساعات، حضرت قصيدة النثر، التي تفتقر بشدّة إلى الحماية النقدية والجماهيرية في اليمن، عبر مجموعة قليلة ومعروفة من الشعراء الشباب في اليمن؛ لا يتجاوز عمْرُ أكبرهم سنّاً عمر كابتن المنتخب اليمني الأوّل. هذا التعليق لا علاقة له بخفّة الظل، البتّة. وبالجوَار منها تربّع النص العمودي على طريقة مريديه. فقد حدث أمرٌ مهولٌ، بالفعل، ذلك أن هذا النص العمودي قدّم لنفسه من خلال أكثر من 20 قصيدة عمودية جليلة في مديح صاحب فكرة الملتقى، معالي الوزير. يمكن القول بأنه "مهول" حين يتعلّق الأمر بحديثِنا عن النص الجديد وما يمثّله من تعالقات ثقافية ونظرية لا مركزيّة، ضداً للبطريركية والأحدية السياسية. وبما يبطنه من طاقة كمون تكفي لأن تكون وقوداً دائماً للتحول والصيرورة.. ما فعله النص العمودي هو أنه احتفظ بمكانته من خلال التبشير بفضائل ولي النعمة، الذي لن يكون بمقدوره أن لا يصدّر هؤلاء الشعراء، فقد أصبحوا الآن في مرتبة : زينة معالي الوزير.
كما هو الحال في العالم الثالث العربي، يحدثُ الشعر في اليمن. فإذا كنّا تمركسنا بوصفنا عرباً، كما يقول الناقد اليمني عمر عبد العزيز، ففي اليمن: تشكّل النظام الشعري على أسس قبليّة صرفة، يصل الحد بالمواجهات بينها إلى الدرجة التي يمكن أن تجعل منه مشكلاً قانونيا ؛كما حدث منذ أشهر مع رئيس بيت الشعر اليمني والجماعة الشعرية المارقة. في الواقع، ثمّة إنتلجنسيا يمنية شفّافة وسريعة التفاعل مع ما يحدثُ في العالم. يمكن الإشارة إلى هذه الإنتلجنسيا في الموجة السياسية المتقّدمة، من خلال أطروحات وفعاليات اليسار الماركسي والقومي واليسار الإسلامي اليمني، تكتّل اللقاء المشترك. كما تتجلى عبر تشكيلات إبداعية ونقدية حديثة، ميكرو نخبة، تعوم في بحيرة جبلية هائلة، قوامها 22 مليون نسمة، لا تعنى بالمطلق بما تقدمه هذه النخبة المجهرية على الصعيد الإبداعي، خصوصاً: الشعري. بينما لا تزال أسراب الدّعاة الرسميين والمتطوّعين تشير إليهم بحسبانهم طليعة الاستلاب الحضاري والثقافي.
في مواجهة هذا المنجز الحداثي النظري الذهني، يقف التاريخُ فارضاً أساليبه الدؤوبة، سانداً إلى أساس جغرافي لا يمكن إهماله: يشكل الريف اليمني 70% من جغرافية البلاد، بدلالات الريف الصادمة في بلد بطيء التنمية، تديره نخب عسكرية- ماركنتناليّة غير قادرة على تقديم خدمة أو تلبية حاجة يمكن أن تبرّر وجودها في السدّة. إن هذا لن يعني أقل من هذا الواقع: يغرق هذا الريف في الظلام، لا يصله الإنترنت، ولا الصحف والمجلات .. كما ليس من الممكن أن نتحدث عن دور نشر في هذه الجغرافية الميّتة. هذا هو الهامش الأكبر عربيّاً، إذا جاز لي أن أخمّن. وفي هذا الهامش يتحرّك شعر فصيح بطريقة كلاسيكية لطالما كشفت المصادفة عن احتوائها على ممكنات فنّية بديعة. كما يحدث أحياناً أن تستطيع هذه الجغرافية الميّتة التعبير عن ممكناتها الإبداعية من خلال شعر عامي عالي الفيوض، شديد التكثيف، كما هو الحال مع الشاعر محمد أحمد برداد، في ريف مدينة تعز. ذلك الذي سينتهي أجله الشعري بموت آخر المسنّين من حفظة شعره.
بمقدوري القول أنّ الحديث عن النظام الشعري في اليمن قد يلجئ صاحبه إلى قراءة الفنجان، إذا ما قرّر أن يأخذ ذلك الهامش الاجتماعي - الجغرافي المهول في الحُسبان، بما ستفرضه قسوة التشخيص، أيضاً، من ذهول دلالي: مجتمع خارج التدوين.
بعيداً عن قسوة الجغرافيا، وغياب الدولة. حتى في ذلك ال 30% من اليمن، حيثُ يعيش اليمنييّون في مدنية جزئيّة يُشك في قدرتها على الاستمرار في المستقبل، كما في صمودها أمام زحف الريف بحثاً عن الكلأ والمرعى. في هذه المدنية الضيّقة، يعيش الشعراء بين أقنومين مهولين : الفندم والدكتور. فقد نجحت جماعة من الشعراء واختطفت الفندم، وهي تسمية غير مجازية للرئيس اليمني. وعليه اختطفت الفاعلية الإبداعية باسمه، بما في ذلك إقامة أنشطة أو ملتقيات أو مشاركات خارجية. علوّاً في عملية الاختطاف، حتى اللامعقول، حيث نجحت جماعة الفندم في السيطرة على اتحاد الأدباء والكتّاب اليمنيين. النصر الذي منحهم شرف المثول بين يدي الفندم لأول مرّة في تاريخ الاتحاد، وهكذا كان الحساب الختامي: الأرض مقابل الولاء! لقد كُتب فيما تلا هذا النصر الفائق أن " الفندم" صرَف قطعة أرض لكل أفراد الفريق الرسمي الفائز، أعني: قطعة أرض من جغرافيا ميّتة على أكثر من صعيد. ونزولاً في السراديب، حيث كشفت التفريغات الإعلامية أن جماعة الفندم عقدت لقاءات سريّة بمعيّة قيادات أمنية لهدف الخلاص من الشخصيات المعارضة في فروع الاتحاد، بالتحديد : فرع عدن. حتى وإن كانت نتائج انتخابات اتحاد عدن معاكسة لرغبة جماعة الفندم، فإن هذا لا يدعو إلى التشكيك في جود هذه الرغبة التي كُرّست الريالات الكثيرة لصيانتها. تعتقد الجهات الأمنيّة مسنودة بمنابرها الثقافية والإبداعية الفندميّة أن هناك علاقة عضوية وإيحائية بين مثقفي عدن، ذوي المنزع اليساري المسيطرين على فرع الاتحاد هنالك، وظاهرة ما بات يعرف بالحراك الجنوبي السلمي الذي تمثّل مدينة عدن مركزيته الذهنية والوجدانية والتاريخية. في الواقع، حتى صحفيو الجنوب باتوا على أهبة الاستعداد لتشكيل نقابة خاصة بهم، في أكسيدوس (خروج كبير) على عكس المنطق الشعري التاريخي المنادي بصنعاء وإن طال السفر. لقد أطالت صنعاء أسفار اليمنيين إلى الزمن الحديث، وأصبح من المناسب أن يبحث كلٌ عن صنعاه، عن إيثاكاه التي تنتظره، ولا تعطي أسرارها لأحدٍ سواه.
مضافاً إلى ما سبق، تأتي جائزة الرئيس للشعر لتحتكرها نخبة مستحكمة، تقوم بتوزيعها عبر وعود وتآلفات تتذكر كل شيءٍ باستثناء الشعر. فمثلاً: منحت النسخة الأخيرة من الجائزة لشاعرتين لم تجد لجنة التحكيم في أعمالهما ما يمكن أن تنوّه به سوى كونهما فتاتين، وأن اختيارهما يتمشّى مع " توجهات أمانة العاصمة في الاختيار!". عند هذه الحدود، وعلى نفس الموجة، تتواءم جماعة الفندم مع جماعة الدكتور ،المقالح، وهما جماعتان تحدّان الثقافة والإبداع في اليمن من كل جانب. في الواقع، يعمل الدكتور مستشاراً ثقافيّاً للفندم، ويجري التكسّب باسمه على نحو مريع. فمثلاً : خرج بيت الشعر اليمني الذي يرأسه الناقد عبد السلام الكبسي من عباءة المقالح، وهاجمه بطريقة أربكت المهتمّين، بعد أن حصد حضوراً معقولاً عبر تربّح غير مشروع باسم الدكتور، التميمة الظنية للنجاح، ومن خلال تكريم شخصيات إدارية وحكومية يُشك في أن أيّاً منها قد قرأ قصيدة شعرية منذ تخرّجه من الثانوية.. بعض هؤلاء المكرّمين لم يحصلوا على الثانوية العامة كونهم ينتمون إلى نظام قبلي موازي لقواعد المدنيّة، لكنه يديرها في الأخير بسبب هبوطهم المفاجئ على المكاتب الإدارية العليا في لعبة توازنات أعقد من أصعب لعبة سو دو كو. مرة أخرى: يحضرون بتميمتهم الخاصة "الفندم". مثال آخر: منتدى "أصدقاء المقالح" تأسس من كل تلك الشخصيات التي كانت، ولا تزال، تعتقد أن المقالح يعمل على تخريب العمل الثقافي اليمني. ربما ليس من قبيل الإنصاف أن يشار إلى المقالح بهذه الطريقة لكنهم فضّلوا في لحظةٍ ما أن يتحدثوا عنه بقليلٍ من الإنصاف. هذا القليل الذي لم يحُل دون الكثير من فرص التكسّب باسم المقالح.
أن تحاول الحركة خارج المشرقين والمغربين (الفندم والدكتور) يعني أن تنالك المشقة في أقسى تجلّيها. و ربما سوّغ السيزيفيّون الفرادى لأنفسهم استلاف أدوات الإقصاء التي تضبط حركة جماعة الفندم وجماعة الدكتور، المندغمتين في أحايين كثيرة، كآلية دفاعية على المدى القصير والمتوسّط. عند حدود هذه الملاحظة، تحاول الجماعة الشعرية في اليمن أن تتجاوز هذه التعقيدات. لكن يبدو أنها تجد نفسها مضطرة لاجترار موروثها الثقافي وإدراجه في ميكانزمات التعامل مع الآخر المختلف الذي عادة ما يصبح، طبقاً للثقافة اليمنية ، خصماً شرساً.. هكذا ستجد أن " خيالٌ يبلل اليابسة" هي أنطولوجيا شعرية يمنيّة حديثة قرر معدّها ومنسّقها – الذي تحوّل إلى كتابة النص الأجد - استثناء قصيدة التفعيلة والقصيدة العمودية، فانحصرت الأنطولوجيا "اليمنية" في مجموعة من الشعراء يعرفُ كل واحد منهم جميع من حوتهم الأنطولوجيا. هكذا كان، إذن، التداوي: بالتي كانت هي الداءُ. هذه مجرّد قصاصة صغيرة عن الشاعر في اليمن، ذلك الذي كما قلتُ في رأس الصفحة: ينام فوق رأسه حجرٌ، ويحدّه الفندم والدكتور من كل جانب!