رواية «وردة» التي تُناقش كيفية تكوين جبهة تحرير ظفار وحربها مع السلطنة العمانية المحمية من قبل الانجليز أصلاً، أعادتْ إليّ شجون الحديث عن «جبهتنا» نحن، وهنا أقصد الجبهة الوطنية التي تشكلت في تعز وإب وباتت تعرف فيما بعد ب «أحداث المناطق الوسطى» كتسمية رسمية لما حدث. هذه الجبهة كانت موجودة في شرعب (منطقتي)» وكان لها تأثير قوي في السبعينات خصوصاً مع علو الصوت اليساري والأفكار الاشتراكية على غيرها.
وللجبهة تاريخ مميز ووقع قد يكون جميلاً وحاملاً لذكريات الشجاعة والإقدام وحكايا الرفاق والرفيقات عند البعض، مثلما قد يمثل صفحة سوداء من الحرب العبثية التي راح من ضحاياها كثير عند البعض الآخر.
بالنسبة لي..سمعتُ الكثير عن الجبهة وتاريخها، ودائما ما كُنت أستمتع بمثل حديث كهذا وأسأل عن المزيد، ليس لأن وقع «الجبهة» كاسم وفكرة على مخيلتي يجعل من حديث كهذا ممتعاً ومشوقاً، ولكن لأن مثل استقصاء كهذا يمثل ما يشبه محاولة الدخول الى تاريخ مثير عن العديد من سكان قريتي والقرى المجاورة في ما يمكن اعتباره فصلاً مهماً من تاريخ اليمن إبّان الدولتين في صنعاء وعدن.
كثير من رجالات القرية انخرطوا في الجبهة الوطنية، وكانت المواجهات العسكرية شبه يومية إن لم تكن كذلك..كان أبي عضواً سرياً في الجبهة لكنه سرعان ما ترك المهمة المتواضعة وذهب إلى السعودية طالباً الرزق.
لنعد الى موضوع الجبهة، فبالنسبة للقصص المروية عنها والتي تستدعي فيها الذاكرة القروية كثيراً من المشاهد عن القتال بين الجبهة والقوات الحكومية، وتصل بعض القصص إلى كونها أقرب إلى الخيال من الواقع، خصوصاً تلك المتعلقة بشجاعة أفراد الجبهة أو تلكَ الأخرى التي تصفهم بالسوء وتعدد أعمالهم الدنيئة.
في أحد الأيام قررت برفقة اثنين من شبان القرية الذهاب فى ما يشبه «النزهة» نحاول تمضية الوقت وقتل الملل، أردتُ معرفة القرية وتاريخها والأماكن القديمة فىها .أخذتنا أقدامنا بعيداً، ووصلنا إلى المنطقة التي كانت الجبهة تعسكر فيها، أو لنقل مقرها الدائم. أذهلتنى الصورة هناك،وجدنا مخابىء عناصر الجبهة المغطاة بعضها بلبس الجنود الحكوميين الذين قتلوهم على الأغلب، لا تزال البزة العسكرية تحرس بعضاً من تلك المخابىء، وهذا يشير إلى أن السكان حتى اليوم يخشون الذهاب إلى تلك المناطق أو التفتيش فيها بعكسنا نحن طبعاً.
أزحنا الجاكت العسكري بعيداً ودخلنا إلى ما يشبه الغار. لا دليل على وجود حياة من أي نوع هنا في الفترة الأخيرة، خرجنا من «الحُود» كما نسميه، والرعب يتملّكنا، وصعدنا أكثر باتجاه الجبل،كانت هناك أيضاً في الموقع نفسه مخطوطات فوق إحدى الصخور تشبه إلى حد ما خطة عسكرية لعناصر الجبهة سيما أن البنادق كانت منحوتة بالإضافة إلى ما يشبه الطلقات الخارجة منها، كل هذا في خارطة مرسومة بعناية وكل هذا فوق الصخرة بالطبع، استمتعتُ كثيراً بذهابي إلى هناك وتخيلت نفسي أجلس في هذا المكان وأعيش وأقاتل منه،لم أندم على شيء سوى على عدم امتلاكي لكاميرا معي فى تلك اللحظات لتصوير ما انبهرت به واحتفظت به مخيلتي ولا شك.
كان الشيخ محمد بن عبدالله نايف أحد مشايخ العدين ذكر فى كتاب عن سيرته الذاتية «الحرب مع الجبهة»، صحيح أن الاعتماد على مصدر معلومات كهذا يعتبر خطأً فى التقدير، كون الشيخ كان أحد أطراف المعركة من الأساس، ولكن لاستيضاح حقائق التاريخ فلا بد من معرفته على نحو جيد والسماع لرواية الأحداث من كل الأطراف. يتحدث الشيخ فى كتابه عن هجمات رجال الجبهة على المزارع والأحوال التابعة لأبيه الشيخ العتيد فى العدين، كما يتحدث عن قتل الجبهة ابن عمه على ما أعتقد، وهكذا فى العديد من الصفحات يرسم ما يمكن تسميتة «حرب الجبهة على المشايخ والمشيخة» كقوى رجعية وبرجوازية تمثل نداً للاشتراكية وفكرها.
فى العدين تحالف الإخوان المسلمون مع المشايخ فى قتال الجبهة، وخصوصاً عندما تعرض عبد القادر قحطان وزير الداخلية الحالي لمحاولة اغتيال من قبل ضابط شيوعي، بينما كان يخطب في جامع قريته في «الأصروم»، تلك الحادثة جعلت عمه عبدالرحمن قحطان الشيخ الديني والعضو الكبير في جماعة الإخوان يعلن ضرورة محاربة الجبهة، تطورت بعدها الأحداث بدراماتيكية وهزمت الجبهة الحرب فى هذه المناطق من العدين وشرعب.
وبالنسبة لهذه المناطق بعد الأحداث فقد أوجد حضور هذه المناطق القوي حاجة قصوى لضمها في مديرية واحدة وهكذا تكونت «شرعب السلام» كما نعرفها الآن من تجمع مناطق كانت تابعة لشرعب الرونة والتعزية ومذيخره فى إب.
أما عن من قاتلوا مع الجبهة فقد صدر عفو بشأنهم والتحق عدد منهم بالخدمة في الجيش لينهوا بذلك فصلاً مثيراً ويدفنوا ولو لفترة ذكريات مثيرة تستحق أن تروى.
ابتعدت كثيراً عن الرواية ولكن موضوعها بالأصل طرح مثل هذا الحديث والتقليب في صفحات الماضي القريب.