السلام عليك أيتها الراعية، السلام عليك أيتها القديسة، السلام على روحك الطاهرة وتربتك الزكية، السلام عليك في الأحياء، السلام عليك بين الخالدين، السلام عليك يا سيدة الحب والحزن والمواجيد. الكلام متقطع والوزن لا يستقيم في حضرتك أيتها البهية، الآن فقط لا أستطيع كتابة الشعر، يصبح الشعر كلاماً سخيفاً في حضرة الموت، لا يليق بالموت الليلة إلا كلمات عارية من بهارج الشعر، لا يليق بالشعر إلا لون الأكفان، الشعر الآن ترف لا قدرة لي على اجتراحه، الشعر في هذه اللحظة زيف لا يليق بعظمة الحقيقة الرهيبة التي أرسلها لي الموت هدية باذخة هذا المساء.
أعلم يا سيدتي أن أصدقائي النقاد سيقولون: «كلام ساذج وصيغ طفولية». ومن قال لهم أنني أكتب لهم، من هم إذا حضر بهاؤك الباذخ، أين مقولاتهم من مقولات الراعية وحكمتها البالغة. كل شيء يتهاوى الآن، يتساقط بارداً في قاع روحي: اللغة والأفكار ونظريات النقد الأدبي كلها تتساقط هذا المساء على روحي تساقط الثلج الكئيب في ليلة شتوية موحشة.
سنوات ثلاث كان التواصل معك عبر الهاتف وهأنا الليلة التحم بك مباشرة رغم الركام والصفائح المغروزة على التراب والأحزان المركومة على ضريحك الجليل. هأنا الآن أيتها البدوية الحزن والملامح أقف على أعتابك في مقام القرب أقبل الأعتاب وألثم المعاني.
كنت ترددين عند كل تواصل تلفوني بيننا دعواتك لي بلهجة لا يجيدها إلا أنت: «جعل يومي يسبق يومك»، «جعل روحي فدا روحك» آه يا أماه كيف تحققت دعوتك لي بشكل مريع، كيف سبق يومُك يومي وفدت روحُك روحي وكيف تطابق الدعاء والواقع هذا التطابق المذهل.
كيف رحلتِ دون سابق إخطار، كيف لم تخبريني بشيء، هل هي عادتك في كتمان ما يمكن أن يؤلمني سماعه حتى لو آلمك كتمانه. كيف صمدتِ للموت وواجهته ببسالة دون أن يشعر أحد، كيف لم تتأخري قليلاً كي أتهيأ لملاقاة الفجيعة، هل كنتِ تظنين أنك بكتمانكِ مواجهة الموت ستكتمين عني الخبر بعد رحيلك، أم كنتِ تعطينني درساً في مواجهة الموت وتهيئين قلبي لما هو أسوأ. آه ما أتعسني يتيماً في عقده الرابع وطفلاً يدق أبواب الأربعين
آه يا حبة القلب كيف جئتُ إلى وعدك متأخراً دمعتين، كيف خرجتُ مجذوباً أسأل عنك المقاعد المرصوصة في هذا البهو، أسأل عنك السمار في حفلة الموت، أسال عنك الأغنام اليتيمات والمراعي الموحشة وعيون الأطفال الصغار، كيف كان اللقاء على بُعد شوقين والموت على بُعد خطوتين. آه أيها الموت لقد اقتربت مني كثيراً بموتها وهأنا ذا عاري القلب أحس برد أناملكَ على روحي وغداً يكون لقاؤنا أيها الصديق اللدود.
يقول لي ابني وقد حزمت حقائبي وأحزاني: أنا أعرف لماذا أنت ذاهب إلى اليمن. قلت لماذا إذن؟ قال: تريد أن تزور أمك... آه يا بني لستَ كبيراً بالقدر الذي تميز به بين السفر لزيارة الأم والسفر لتلقي العزاء فيها. آه أيها الصغير كم أنت قادر على الإيلام كما كانت هي قادرة على الإسعاد. قال لي وهو يواصل حديثه: «قل لها تُكبِّر غنمتي حتى أراها في الصيف القادم وقد أصبحت مثل الفيل». آه أيتها الراعية كيف تركت الغنم بلا راع، والمراعي بلا رفيق، كم من مفجوعٍ فيك، خلائق كثيرة تبدأ بنعجة «حمّودي» وتنتهي بأبيه.
هل تصدقين أنني أراك كل ليلة خارجة عليَّ من عند أغنامك، وأنك تطلين عليَّ من وراء الكثيب، هأنت الآن تطرقين عليَّ الباب لصلاة الفجر، هأنت على السجادة ترددين «يا رب الارباب يا مولى الطلاب، عفوك وعفاك» هأنتِ بين المغرب والعشاء تحيط بك قبيلة من الأحفاد وأنتِ تناولين هذا كأساً من الحليب وتلك قطعة خبز وآخر ضمة حنان، كنت أماً لنا ولأولادنا. ما أعظمك!
كان لديك إيمان عظيم وأنت التي ما كنتِ تحفظين غير ثلاث سور من القرآن. لم تنضمي إلى حركة إسلامية رغم أن المسافة بينك وبين السماء كانت أقصر مما بين بعض المتخمين دينياً وبينها. كنتِ تتمنين زيارة الكعبة لكن السماء اشتاقت إليك فذهبتِ إلى هناك، كنت تريدين زيارة قبر النبي لكنه استعجلك للقائه عند المشارف البعيدة. لا تحزني سأقبل لأجلك الكعبة وأزور لأجل عينيك النبي على الرغم من ثقتي بأنك أقرب مني إلى الكعبة وأحب مني إلى النبي. لا تحزني أرجوك، دعي الحزن كله لي فلا يليق بك هذا المساء إلا الفرح ولا يصلح لي إلا الأحزان.
هل تذكرين يا سيدتي أنك كنت تقولين لي بلهجة بدوية محببة «الله يباعد بينك وبين عيال إبليس» فتسارع زوجتي لتضيف: «وبنات إبليس» فتبتسمين وتقولين «وبنات إبليس». آه أيتها القديسة كيف تركتني ولا سند لي من سيحميني من «عيال إبليس» وقد توارى دعاؤك تحت التراب؟!
نساء كثيرات يا سيدتي عبرن هذا النهر لكنك الوحيدة التي وقفت وسط الماء، وسط الروح، أنت التي ألهمتِني كل هذا البهاء وهيأت لي متكأ الأحزان. أيتها الخارجة من سهوب الروح: من يسند روحي، أية لغة تحتوي حزني الباذخ وأية مساحة تتسع لشجني هذا المساء.
أمي، سيدتي آن لك الآن أن تدخلي إلى الملكوت بكل هالات القديسين وأنوار العارفين، يا سيدة الحكمة ويا بهاء الحروف، لا خوف عليك اليوم وقد التحمت بالمعاني الخالدة وعدت نوراً ناعماً كما كنت معنىً ندياً يشد الكلمات ويشْدَهُ الحروف.