في الحياة، هناك أمور وأحداث ومواقف، تأخذ أحد لونين؛ إما أبيض، وإما أسود. إما تكون صائبة، وإما تكون خاطئة. إما تكون حقا، وإما تكون باطلا. إنها مواقف لا تحتمل تصنيفا بينيا، أو رماديا.
من هذه الأمور؛ ما حدث وما زال يحدث في عالمنا العربي، منذ اندلاع أول ثورة شعبية، مع أول أو آخر لهب يحرق جسد البوعزيزي، المواطن التونسي المقهور، الذي قرر إنهاء حياته البائسة منتحرا.
إن هذه الثورات الشعبية ضد أنظمة حكمها الفاسدة؛ لم تكن تعبر عن موقف كل مواطن مظلوم في هذه الشعوب! لا. كان هناك الكثير ممن يقع عليه ألوان ذلك الظلم وأشكاله، ولكنه لم يثر!!
لماذا؟! لماذا هذه ولدت حيرة عظيمة في نفسي وفي نفوس غيري من الثائرين! كنت أرى وأشعر وأعيش ظروف الظلم التي أدت لمثل هذه الثورات، كأي مواطن عربي، يفترض أنه من الطبقة المتوسطة.. الطبقة التي صارت، بقدرة الأنظمة والحكومات الفاسدة؛ طبقة فقيرة. حسب جميع الدراسات الاجتماعية، والتي تصف المجتمعات العربية، وتصنفها لطبقتين فقط؛ طبقة فقيرة، وطبقة مترفة! لذلك تفاعلت كما تفاعل الملايين غيري، فكنا من الثائرين.
لكن، كان هناك، أيضا، الكثير ممن لم ينتفض، ولم يثر، بل ووقف مع الفساد والظلم والحاكم، مدافعا عنه، ومنافحا شرسا عن الفساد، وملتمسا له الأعذار، بل ويقف ضد كل من ثار ضده!! رغم أنه لم يكن يوما من المستفيدين من ذلك النظام، ولا المنتفعين الذين كونوا الثروات، أو أوكلت له المناصب والنفوذ! إنه ببساطة، ممن سحق تحت آلة القهر والظلم والفساد لهذه الأنظمة، وحاله لا تختلف عمن ثاروا، لا من قريب أو من بعيد!! مقالي هذا، يتحدث عن هؤلاء الناس.. أعني الغير المستفيدين، مباشرة، من وضع عام، طابعه الظلم والفساد في الأرض!
يا إلهي!! ما الذي يحدث؟! كيف فقد أمثال هؤلاء القدرة على الحكم الصحيح؟! كيف لهم أن يدافعوا عن الذين حرموهم حق الحياة الإنسانية الكريمة؟! بل وحق الحياة، نفسها، في أحايين اخرى كثيرة!! كيف فقدوا الرؤية؟!
لم أجد تفسيرا يخلصني من حيرتي الشديدة، إلا ما قرره خالق الخلق والعالم بمكامن الخلل والمرض التي يعانون، وتعاني قلوبهم منها. لقد وجدت جوابا شافيا، كافيا، حاسما، لا يعتريه الباطل من بين يديه ولا من خلفه! إنه قوله، عز من قائل: فإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَرُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ ﴿46﴾ الحج
نعم، إنها لا تعمى الأبصار! فجميعنا نرى بأبصارنا، ما يبث وما يقال وما يسمع، في وسائل الإعلام، وجميعنا يتعرض، في نفس الظروف المكانية والزمانية، لنفس ما يتعرض له الآخر، وجميعنا يمارس عليه ما يمارس على الآخر!
ولكن: إنها لا تعمى الأبصار! جميعنا مظلومون، مهانون، مسحوقون! جميعنا، فقد الأمن والإستقرار، والحلم والأمل! جميعنا، في فاقة وفقر وذل! ولكن: إنها لا تعمى الأبصار!
جميعنا، يحكم بالحديد والنار من قبل أنظمة بوليسية قمعية، تكدس الأسلحة وتجوع الشعوب، لتوفير ثمنها، لا لدحر الأعداء، ولكن لدحر الشعوب!!
جميعنا مهدر وفاقد لحرمة دمه، إن لم يمتثل لما يملى عليه من صنوف الطاعة والإذعان، وعدم المعارضة!! جميعنا يرى ويعيش ذلك، وما هو أشد من ذلك! ولكن: إنها لا تعمى الأبصار! نعم، إنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور! تلك حقيقة، يقرها خالق الخلق وباريهم والعالم بما تخفي قلوبهم! نعم، لا يفسر ما نراه إلا عمى القلوب! إن عضو البصيرة ليس العين، وليس العقل، باعتباره العين الأخرى للإنسان! إن من يرشدنا إلى الحق ويدلنا على الباطل. عضو آخر. عضو مسؤول عن البصيرة الحقيقية! لقد بتم تعرفون هذا العضو جيدا. نعم إنه القلب! القلب هو البوصلة التي تشير دائما وأبدا إلى اتجاه واحد: اتجاه الحق. لأنه مكان روح الله فينا.
وعندما يصيب العطب هذه البوصلة، تفقد قدرتها المميزة في معرف اتجاه الحق! فتعمى البصيرة، وتفقد الفطرة السليمة!
أعلم أن كثيرين ممن نراهم معارضين لهذه الثورات، ومؤيدين للأنظمة الفاسدة؛ أناس عاديون وطيبون ورقيقو الشعور، ومع ذلك تأخذ قلوبهم ونفوسهم جانب الباطل! لماذا وما السر؟! لا أعلم! لكني أثق أن هناك خللا ما في فطرتهم، وفي قلوبهم، دون شك! ولكن ليس معنى ذلك أنه يستحيل أن تعود إليهم بصيرتهم، وفطرتهم السليمة، فالقلب لم يسمى قلبا، إلا لكثرة تقلبه من حال إلى حال. وإلا لما أنزل الله فينا رسله.
وفي هذا السياق، نستطيع أن نحدد ثلاثة أحوال للقلب، وبالتالي ثلاثة أنواع من الناس والمواقف، كما أتوقع، ومن خلال علمي البسيط. وهي: أولاها؛ أن يكون القلب في حالة عمى مؤقت، تنتهي بنهاية المؤثر والمسبب لهذا العمى، وبالتزكية؛ فتعود إليه بصيرته، ليعود صاحبه إلى طريق الحق.
والحالة الثانية؛ أن يطمس الله نور قلب، فيعمى عما ثابتا، أبديا، لأن الله علم أنه لا أمل ولا رجاء فيه. فيستمر صاحب هذا القلب في عماه، سائرا، أو بمعنى أدق، متعثرا، في طريق الباطل حتى النهاية المحتومة!
وبين الطاريء والثابت، يوجد الحال الثالث؛ وهي حال القلوب المؤلفة. فأصحاب هذه القلوب مع الحق أو مع الباطل، بقدر النفع الذي يعود عليها من هذا الحق أو ذاك الباطل، وأظن أن هذه الفئة تمثل النسبة الأغلب للناس الذين نتحدث عنهم.
نخلص إلى نتيجة من كل ذلك؛ أن الحق قد يجافي أصحاب العلم، وأصحاب العقول، وأصحاب الثقافة، ولكنه لن يجافي فئة واحدة فقط؛ إنها فئة أصحاب القلوب التي لم تفقد فطرتها السليمة... القلوب المبصرة... القلوب العامرة العامرة بالله وبالخير.
وذلك يفسر كيف أن إنسانا بسيطا لم ينل من العلم ولا من الثقافة نصيب، ينحاز للحق؛ بينما غيره من أصحاب العلم والثقافة والعقول، قد جافاهم الصواب وظلوا، فاتبعوا الباطل!
تستطيعون أن تطبقوا هذه الحقيقة الثابتة التي لن تنقضي في أي ظرف زماني أو مكاني؛ لأن الله عز وجل هو الذي قررها في كتابه، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ على كل ما يحدث حولنا من أحداث دامية، مؤلمة، موغلة في بشاعتها وفظاظتها. وكيف أن كثيرين يفقدون بصيرتهم؛ فيقفون مع أنظمة قمعية، ظالمة حد الفجور. وكيف أن كثيرين أيضا، ما زالوا يحتفظون ببصيرتهم وسواء فطرتهم؛ فيقفون أمام هذه الآلة الغاشمة المدمرة، رغم كل ضعفهم، الظاهر فقط؛ ورغم كل قوتها، الظاهرة، أيضا، فقط. فالحق هو القوة الحقيقية الجوهرية، التي يحتمي بها هؤلاء الضعفاء، والبطش والباطل، هو الضعف الحقيقي، الذي يتسلح به أولئك: إلَّا لَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ﴿227﴾ الشعراء