ليست الحوثية وحدها صاحبة "صرخة"، فلكل منا صرخته التي تنبعث من أعماق جهله وتخلفه، وتاريخنا الجمعي أيضا مليء بالصرخات والزفرات، لدرجة نبدو معها أكثر الشعوب العربية التي تنطبق عليها قولة غازي القصيبي "العرب ظاهرة صوتية". كان "التوريث" آخر الصرخات التي أطلقها "مجاذيب" النظام السابق وحشدوا لها كل فنون الدروشة في حلقات "الزار" السياسي والإعلامي، وقبلها كانت صرخة "اليمن كلها قبائل" تدلل على دورة التخلف التاريخي التي دوخت العقل اليمني وأوردته مهاوي الظلام، ثم انبعثت صرخة "الشراكة مع دول الجوار" من أعماق الذات الوطنية المهزومة والمستسلمة لفواتها التاريخي بعد أن أقرت بتبعيتها المطلقة للجوار الثري والقاسي في الوقت نفسه، غير أن أوجع تلك الصرخات التي لا تكاد تبرح الأذن ولا تفارق الخيال هي صرخة " النخب المشلولة" في وجه الشباب الذي خرج مطالباً بالتغيير الجذري في ثورة فبراير 2011 : "اصمتوا ودعونا نتحاور فقد انتهى دوركم"، كانت بالفعل صرخة مدوية وقاسية انخلعت لها قلوب الشباب الأنقياء، وانتفضت من هولها أجساد الشهداء الأبرياء، فقد وضعت حداً للدفق الثوري الهادر، وأوقفت جريان أحلام جيل كامل. تتردد اليوم جميع تلك الصرخات – وغيرها الكثير- بين حيطان "موفنبيك"، ويختلط حابلها بنابلها، ومن بين هذا الصراخ الذي نادراً ما يهدأ ليسمح بحوار جدي، ينبري لفيف من الوطنيين الأنقياء، يخافون على الوحدة اليمنية ويخشون أن ينفرط عقدها، فيرفعون قميصها في وجه فيدرالية الأقاليم، ظناً منهم أن الأخيرة ضد الوحدة حكماً، وأن الوحدة إما أن تكون "اندماجية" أو لا تكون، وهم إذ يفعلون ذلك عن صدق وعن وطنية عارية يتصورون أن حبات الوطن لا يمكن أن تنتظم إلا في سلك "المركز" اللا مركزي، دون أن يقولوا لنا كيف سيكون "المركز" لا مركزياً، وإلى أين سنصل إن نحن ضربنا عرض الحائط بتجربة فشل "لا مركزية الفساد" التي استمرت أكثر من عشرين عاماً وأتت على الأخضر واليابس في يمننا المنهوب المنكوب، أو إن نحن انسقنا وراء بكائياتهم المبكرة على الوحدة وأقمنا لها سرادقاً من نسج الخيال، أو أصغينا لصرخاتهم الانفعالية في وجه فيدرالية الأقاليم، ورحنا نمارس بغرائزية طافحة طقوس اللطم والنواح وشد الشعر وتمزيق الأكتاف بدلاً من التفكير المسئول بما يصلح لمستقبل هذا الوطن. إننا أمام مأزق لا نحسد عليه وضعنا فيه اللصوص والفاسدين والمستبدين، وأصحاب سياسة "الدعممة" ودس الرؤوس في الرمال، والتنعم بالمناكفات، ولحس الصفقات والمساوات مع نظام المخلوع وبنيه طوال عقدين كاملين، وأمام هذا المأزق الخطير الذي يتوقف مستقبلنا على التعامل العقلاني معه، لا بد من التحلي بالشجاعة والصراحة، ولا بد من ترويض النفس على التخلي عن الكثير من "القبليات" التي تحجب انسياب وهج العقل، وتقيد حركته الوثابة في ظرف لا يقبل المزيد من الشعارات والصرخات.
أسئلة كثيرة تواجه هؤلاء وعليهم التفكير فيها بمسئولية بعيداً عن لا منطق "الصرخة"، فإذا كنتم لا تثقون بوحدوية الجماهير فما جدوى دفاعكم عن استمرار الوحدة؟ كيف لكم أن تدّعوا دفاعكم عن الوحدة في حين تصورون الجماهير وكأنها "رعاع" يتحين الفرصة للانقضاض عليها بمجرد الحصول على حقوق أصيلة ينظمها دستور مستفتى عليه في أقاليم فيدرالية؟ ثم كيف لكم أن تجبروا هذه الجماهير التي تخافون على الوحدة منها على التعايش في دولة اندماجية؟ إلا إن كنتم تفكرون بموجة جديدة من الحروب والقمع. إنه لمن العيب أن نخاف على الوحدة من شعبها.
أما إن كنتم تخافون على الوحدة من المتآمرين - وهذا هاجس مشروع- فمن حسن الحظ أن المتآمرين وصناع الأزمات والانتكاسات موجودون جميعاً بذواتهم أو بممثليهم في رقعة لا تتجاوز مساحتها مئات الأمتار في فندق موفنبيك في "المركز"، ومن حسن الحظ أنهم جميعاً أو جلهم يرفضون فيدرالية الأقاليم، وأن من اقتنع منهم اقتنع متأخراً وعلى مضض دون أن يتخلى عن مراوغاته، فأحكموا عليهم الخناق واضغطوا عليهم شعبياً ليكفوا عن التآمر، ويقروا بدولة فيدرالية متعددة الأقاليم تكون حلاً لمعضلتنا التاريخية: معضلة الدولة ومعضلة الوحدة، بدلاً من تحقيق أجندات البعض منهم، سواء عبر الترويج لاستمرار المركز تحت غطاء "اللا مركزية"، أو بتقديم الذريعة للبعض الذي يريد الذهاب إلى خيار الانفصال تحت ذريعة فشل مؤتمر الحوار الوطني.
ثم ليقل لنا أنصار الوحدة الاندماجية: ما هو تصورهم لحل القضية الجنوبية إن كان أقصى ما يقدمونه هو اللا مركزية الإدارية؟ وهل ما يسمى الحكم المحلي واسع الصلاحيات كترتيب إداري سيلبي طموحات القسم الأكبر من الجنوبيين التي بتم تعترفون بمشروعيتها؟ وهل لديكم استعداد للقبول بنقل عاصمة الدولة إلى عدن أو أي محافظة أخرى لتحرير المركز من ضغط البيئة القبلية المحيطة بصنعاء، وتفكيك علاقة النظام القبلي – المشيخي بالدولة وفك تداخله معها؟ ثم إذا كانت الأقاليم في الدولة الاتحادية تتمتع بصلاحيات دستورية في الجوانب المالية والاقتصادية والإدارية، وتنتخب حكومتها الإقليمية وحاكمها الإقليمي، وتعبر عن خصوصياتها من خلال تشريعات محلية، وعلاقتها مقننة بالمركز على نحو واضح فلماذا ستفكر تلك الأقاليم بالانفصال؟ متى كان الانفصال هدفاً في حد ذاته؟ ثم إذا كانت فيدرالية الأقاليم ستؤدي إلى تقسيم اليمن فما الذي سيمنع سيناريو التقسيم في ظل دولة اندماجية لا تمنح المحافظات أياً من الصلاحيات المعتبرة، أو هي تستطيع أن تسحبها بعد تفويضها؟ هل هو الجيش والحروب الأهلية؟ وهل أوصلتنا إلى ما نحن فيه إلا انقسامات الجيش وإفرازات الحروب الأهلية؟
ثم اشرحوا لنا العبارة التي تقول إنه لا بد من وجود مركز قوي أولاً قبل الذهاب إلى فيدرالية الأقاليم، ما معنى قوة المركز هنا؟ وإذا كان المركز قوياً فما الداعي للفيدرالية؟ إن المركز القوي يفوّض صلاحيات ولا يمنح حقوقاً دستورية لأقاليم. فإذا كنتم تقصدون بقوة المركز اكتمال بنائه المؤسسي، وتمتعه بقوة اقتصادية، واستقرار أمني ناجز فهذا أمر يتطلب سنين طويلة، لكننا نتفق معكم إن كان المقصود هو تجنب وجود فراغ سياسي في المركز، وضرورة وجود حد معقول من البناء المؤسسي الذي يضمن تماسكه، فمن غير المعقول مثلاً أن نذهب لفيدرالية إقليمية في ظل عدم وجود رئيس منتخب في انتخابات تنافسية حرة، أو حكومة تأتي نتيجة لانتخابات برلمانية حرة، أو في ظل عدم وجود دستور مستفتى عليه شعبياً، ومنظومة قوانين مصاحبة، فهذه عوامل لابد منها لأنها تمنح المركز شرعيته التي على الأقاليم احترامها والعمل معها. على أن هذه القضايا يمكن ترتيبها في الوقت الذي يجري فيه بحث التفاصيل الفنية والاجراءات العملية الخاصة بمسألة الأقاليم وهي كثيرة وتحتاج إلى جهد ضخم وأشهر طويلة، قبل الدخول عملياً في المرحلة الفيدرالية.
يبقى القول إنه بالقدر الذي يتخلى المركز عن صلاحياته غير السيادية لتصبح حقوقاً أصيلة للأقاليم فإنه بذلك يكون قد قوّى نفسه بصورة متدرجة ومعقولة، وتخفف من أحمال كثيرة زائدة. (يتبع)