هذا العام، وتزامنا مع ذكرى الاستقلال؛ أو جلاء القوات البريطانية المحتلة عن جنوب الوطن؛ أثار البعض مسألة لغوية بلاغية حول استخدام مصطلحي: الاستقلال والجلاء في وصف ما حدث في 30 نوفمبر 1967، وبعض هؤلاء وجدوا أن استخدام مصطلح الجلاء فيه تقليل من حجم الحدث التاريخي. وإلى هنا والأمر مقبول في إطار الاختلافات البشرية، فحتى ثورة 26 سبتمبر صارت توصف بأنها: انقلاب عسكري دون أن يجد الوصف معارضة أو تعليقا سلبيا حتى من الذين صكوا شعار: الجمهورية أو الموت أثناء حصار صنعاء.. لكن ما يلفت النظر أن بعض من يستحقون وصف: باحثين عن جنازة يشبعون فيها لطم (وهم بالمناسبة من الذين يبدلون مواقفهم السياسية وقناعاتهم الفكرية وفقا لمستوى الخصب والبوار في خزائن الأحزاب، وهل هي وديان غير ذي زرع يجب نبذها والهجرة منها، أم مروج زلط ومناصب يستحب البقاء والعيش فيها!) ومواكبة للموضة العربية من المحيط إلى الخليج (التي يشارك فيها كوكبة من الممثلين والممثلات، والمطربين والمطربات والراقصات) والتي تلقى مسؤولية كل مصيبة على الإسلاميين (الإخوان تحديدا)؛ تماشيا مع ذلك فقد وجد هذا البعض أنه من المستحب إقامة جنازة يمنية حول وصف حدث 30 نوفمبر 1967 بأنه: جلاء، وإلقاء المسؤولية على فريق من المنتصرين في حرب الانفصال والدفاع عن الوحدة أصر على أن ما حدث كان جلاء للقوات البريطانية وليس استقلالا وطنيا، وهو بالتحديد الطرف الذي خرج من الائتلاف الثنائي عام 1997، وأول حرف من اسمه: التجمع اليمني للإصلاح.. وليس الطرف الآخر الوطني المتشرب لفكرة الاستقلال، المدافع عن هوية الجنوب وحقائق تاريخه، والذي أول حرف من اسمه: المؤتمر الشعبي العام بزعامة: الزعيم علي عبد الله صالح.. عاشق الجنوب وتاريخه وهويته!
حيثيات المشاركين في الجنازة أن لفظة الجلاء مؤامرة على الجنوب لطمس هويته، وتزوير حقائق تاريخه؛ لأن لفظة "الجلاء" القبيحة لا تستخدم في حالة خروج أو جلاء المحتلين (اللهم اغفر لي استخدام هذه اللفظة.. إنك غفور رحيم) بعد ثورة تحررية وكفاح وطني؛ بل تستخدم في حالة خروج أو جلاء (غفرانك اللهم مرة ثانية!) القوات الأجنبية بناء على اتفاقية جلاء مثل ما حدث في مصر عام 1954!
لن نصر على تفنيد هذه الحجة من الناحية اللغوية البحتة؛ رغم قناعتنا أن الأمر مما يجوز الخلاف فيه؛ فمن غير المعقول أن يطالب البعض بحرية العقيدة وفقا لمبدأ: "من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" و "لا إكراه في الدين" ثم يأتي من يجعل استخدام مصطلح الجلاء -بصرف النظر عن السبب- جريمة وطنية، ومؤامرة تذكر بأيام المؤامرات الطبقية! وكما صارت سبتمبر محل شك: وهل هي ثورة أم انقلاب؟ فحتى الوضع في جنوب الوطن لم ينعم بالاستقلال كثيرا، ثلاث سنوات بالكثير.. وفق شهادة الأستاذ نجيب قحطان الشعبي (ابن قائد ثورة 14 أكتوبر وأول رئيس جمهورية) قالها قبل أيام وصفا لثلاثين نوفمبر بأنه: ".. استقلال عظيم لكن غدروا به.. فما هي إلا 3 سنوات على الاستقلال إلا وكان في الجنوب مجلس رئاسة تحت السيادة والحماية الشيوعية، وصار سفير موسكو بمثابة مندوب سامي في عدن.." يعني: يا قلبي لا تحزن على جلاء أو استقلال.. كله راح فاشوش.. وهذا كلام نجيب قحطان وليس كلامي.. وعلى المعترضين الرد عليه وليس على كاتب هذه الكلمات!
من الناحية السياسية؛ فهناك تعددية في وصف خروج أو جلاء القوات المحتلة أو الموجودة بالغصب في بلد عربي بأنه: استقلال أو جلاء.. واستخدام وصف الاستقلال موجود حتى في البلدان التي لم تعرف ثورة مسلحة ولا كفاحا تحرريا وطنيا.. فمثلا؛ المغرب، والكويت، والبحرين، وقطر، والإمارات، وعمان، والأردن، والسودان تستخدم مصطلح: الاستقلال؛ رغم أن القوات الأجنبية خرجت وفق اتفاقية جلاء.. وللتذكير فحتى البلدان العربيان الوحيدان اللذان شهدا ثورتين مسلحتين – أي الجزائروجنوب اليمن- تم الخروج منهما وفق اتفاقية سياسية بعد مفاوضات نظمت عملية الجلاء وما بعدها، وخرجت القوات المحتلة بنظام وليس مطاردة إلى السفن والطائرات، وسمي خروجها جلاء لأنه لا يمكن أن نصف خروجها فنقول: استقلت قوات الاحتلال البريطاني عن عدن!
المهم؛ مع فارق وجود ثورة مسلحة في حالة الاستقلال واتفاقية في حالة الجلاء إلا أن الفعل في الحالتين واحد وهو وصف خروج القوات الأجنبية بأنه.. جلاء تبعه بالضرورة: استقلال بلد ما.. فكل جلاء يتبعه استقلال، وكل استقلال يسبقه جلاء.. ومن المؤكد أن ليس كل استقلال يكون في جوهره استقلالا حقيقيا.. ففي حالات كثيرة تظل بلدان مستقلة مرتبطة ببلد الاحتلال السابق بعلاقات هي الاحتلال الناعم إن جاز الوصف، وبعضها تستبدل الاحتلال القديم باحتلال جديد ناعم أو مما يسمى بالاستعمار الجديد!
••• إذن من الناحية السياسية ليس هناك فرق حقيقي بين مصطلحي: الجلاء والاستقلال.. لكن لنفرض من باب الجدل أن مصطلح الجلاء تزوير، ومؤامرة، وطمس لهوية الجنوب.. أليس من الأفضل أن نسأل من أول من استخدم هذه اللفظة المنحوسة كما اكتشفنا الآن؟ هل جنوب اليمن بعد الاستقلال لم يعرف لفظة: الجلاء حتى جاء زمن المنتصرين في حرب 1994 فاخترعوها .. عليهم الاستقلال إلى يوم الدين؟ هل كانت لفظة الجلاء غريبة عن أسماع اليمنيين في جنوب الوطن حتى فرضها بعض المنتصرين طمسا لهوية الجنوب وتزويرا لحقائق تاريخه؟
لمن لا يعلم من أبناء اليمن؛ فإن لفظة "الجلاء" مستخدمة في جنوب اليمن من قبل حرب 1994 بل من قبل الوحدة.. ومنذ زمااااان كان هناك في مدينة خور مكسر في محافظة عدن ( أو المحافظة الأولى في زمن الحفاظ على حقائق التاريخ وهوية الجنوب) حي اسمه: حي الجلاء، والاسم أطلق لأن الحي كان محاذيا للمنطقة البحرية التي غادرت منها آخر سفينة بحرية بريطانية تحمل معها المندوب السامي الأخير وهو مستر تريفليان! في الحي نفسه؛ سميت أشهر مدرسة ثانوية في عدن باسم "ثانوية الجلاء"، والتي صار اسمها الآن ثانوية محمد عبده غانم.. فالحمد لله؛ راح الجلاء وراح الشر معه!
وللرياضة نصيب في الجلاء؛ ففي الفترة ما بين 1986 و1990 (لا أعرف السنة بالضبط لكن المهم: ليس قبل الوحدة فضلا عن حرب 1994) تأسس نادٍ رياضي في خور مكسر اسمه: نادي الجلاء الرياضي.. وفي أغسطس 2012 تم اختيار د. واعد باذيب وزير النقل رئيسا فخريا للنادي (أظنه من سكان الحي)!
هذه ثلاث حقائق تاريخية تؤكد أن لفظة "الجلاء" في جنوب اليمن ليست مؤامرة إصلاحية، وطمسا لهويته وتاريخه، وتقليلا من ثورة أكتوبر التحررية.. فقد كانت مستخدمة، والناس لا يفهمون منها ما يفهمه عكفة ضاحي خلفان في اليمن؛ الذين لم يعد واديهم ذا زرع بعد خلع المخلوع فقرروا أن يبحثوا لهم عن وديان أخرى يرعوا فيها. ولا فرق أن تكون باسم الوحدة أو الحراك أو الاستقلال والجلاء.. المهم مرعى وقلة (..).. وجنازة يلطمون فيها، ويؤكدون أنهم صالحون لكل زمان ومكان.. ولكل فتنة وثورة.. ولكل وحدة وانفصال.. واشتراكية ورأسمالية.. وقومية وقروية!
وكل جلاء واليمن واليمنيون.. في خير، وعزة، ومنعة، ووحدة عدل وحرية بدون مركز مقدس في الشمال ولا مركز معفط في الجنوب!