ضحكت من قلب يعصره الأسى حين بلغني توجه سيارتين مدججتين بالرجال من إب إلى صعدة، كلاهما يبغي الجهاد في سبيل الله، الأولى دعما للحوثي والثانية للسلفيين. بسخرية علقت المعلمة أمام تلاميذها "طالما مش رايحين يجاهدوا لأجل تحرير القدس ليش يتعبوا أرواحهم سفرا إلى صعدة من أجل مواجهة بعض هناك، كان الأفضل يواجهوا بعضهم في إب ويتخلصوا من أعباء السفر والمال، في النهاية المسألة محسوبة جهاد وموت سواء في صعدة أو في إب، طالما والعدو وهما نفس العدو حوثي وسلفي".
السلفي كالحوثي تماما، كما نحن، كما هم، كما هو حال الغير ضحايا نظرية "نحن حق مطلق وغيرنا باطل مطلق" وعلى ضوء امتلاك الحقيقة يسيرون باتجاه إزالة الباطل المطلق (الآخر) ولا يضعون في حسبانهم صعوبة إزالة الآخرين من الوجود، ولا يمكن بعقول مغلقة أشبه بشرائح شركات الاتصالات أن تقبل بأحد خارج إطار تغطيتها.
المصيبة أننا وأولئك، وهؤلاء، جميعا سنكتشف أننا بأفكارنا وأطروحاتنا ونظرياتنا وعقائدنا وفلسفاتنا وفقهنا، مجرد سخرة، وضحايا تاريخيون بامتياز لمجموعة ألعاب سياسية، أدارها الحاكم من إيوانه حفاظا على بقائه في عرشه، وسخر لذلك الدين والمذهب والمال والمنصب، وتشريعات ما يعرف بفقيه السلطان الذي دس آراءه في أتون كتب صرنا نتلقاها دينا لا مجرد آراء.
عدا عصر الخلفاء الأربعة، حيث كان الإسلام هو الحاكم، صار المسلمون هم الحكام والإسلام مجرد شماعة تثار قضيته كدين يحتاج إلى حماية من المارقين والزنادقة وطوائف الشر، في حال ثارت ثائرة الرعايا ضد الحاكم أو حين يواجه الحاكم زحفا من حاكم آخر، هنا يسخر الحاكم إمكاناته في إثارة جماهير الرعاع الذين يذهبون وقود حروب حماية الحاكم المقدس باسم الدين.
عدا ثلاثين عاما من عمر الدولة الإسلامية الأولى فإن الإسلام عاش مخطوفا بيد الحاكم الذي حل محله في القداسة ووجوب الحماية وعدم الخروج عليه، بل إن تشريعات السلطان اتجهت يوما لإنتاج قواعد فقهية ومذهبية تشرعن للسلطان حتى صار الخروج عليه خروجا عن نحلة الإسلام وشرعته، وفي معزل عن الإسلام صار الفقيه والسلطان مرجعا مقدسا، خاصة مع تزاوج طرفي السلطان والفقيه (السياسي والديني)، في حقبة تاريخية ما، واجتماع الثروة والسلطان بأيديهما، وكان للمذهبين الإسلاميين العظيمين (سنة وشيعة) دور محوري في التأسيس لحاكمية الفرد المقدس المطلق، وكان لصراعهما التاريخي باسم الحق الديني أثر في التأصيل والتقعيد لمفاهيم تصب في صالح الحاكم، ترفع الإسلام حتى عن الإشارة إليها .
شعوب الإسلام بشقيها (سنة وشيعة) ما تزال تجتر ذلك الماضي، بكل آفاته وعلله في الحاضر وتقتات مآسيه ثقافة وسياسة وفكرا ومنهج حياة،لم تفكر في استشراف المستقبل وتناسي كل ما يمت للماضي، على قاعدة " تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم" رغم التقدم التعليمي وافتراض تقدمنا في الوعي، وحاجتنا الماسة للسلم والسلام وضرورة التعايش مازال الجميع أسير ثقافة إلغاء الآخر على قاعدة الحق المطلق، لم نستفد من دروس تاريخ طويل من النزال والمواجهات نتيجتها تقول "من الصعوبة بمكان إلغاء الآخر، وليس أمامنا سوى التعايش".
ولأننا لم نستفد من دروس ومحن التاريخ، حيث كنا ضحايا الحكام والأمراء والسلاطين، الذين يتسلقون على جماجمنا للبقاء في العروش، وما زلنا إلى اليوم ضحاياهم، وسنبقى ضحاياهم، لأننا مجرد دمى وبيادق في حسابات مصالحهم تحركها أنى شاءت وكيفما شاءت، وهم لا ينسون أن يكون الإسلام أحد ضحايا حساباتهم عندما يقذفون به في أتون صراعاتهم كشماعة يجب علينا باسمه حماية الحاكم الفرد، القائم بأمر الله في الأرض، حامي حمى الإسلام، والقائم عليه بالوصاية .
وهكذا تنبثق في كل مرة هتافات "حي على الجهاد" وكل يهتف باسم "الله أكبر" وكل مجاهد يقتل أخاه المجاهد وتنتصر فينا الهمجية، وتعلو العصبية، وتموت فينا قيم الإنسان النبيل وسماحة الإسلام.
إيماضة: "الحرب بين المسلمين ليست حربا بين التشيع والتسنن، ولا من أجل العقيدة، بل هي معركة بين مصالح دول ضحيتها العوام من السنة والشيعة". د. على شريعتي.