طمأن السيد عبد الكريم الإرياني دول الخليج العربي حول أن ما يريده اليمنيّون هو فقط أن يتعلّموا من الخليجيين كيف يصطادون السمكة لا أن يحصلوا على السمكة التي اصطادتها هذه الدول. كان مقالاً يغلبُ عليه طابع التسوّل والوله المفتعل ذلك الذي نشرته "الاقتصاد اليوم" منذ أسبوع. كما لم يكن هذا الحب الاستراتيجي الجارف متساوقاً، بالمطلق، مع مقولة سابقة للشخص ذاته: لقد وقفنا مع العراق (ضد دول الخليج، بالطبع) لكي لا يلعننا التاريخ. الأكثر غرابة في الأمر هو أنّ محصلة ما يمكن فهمه من المقال لا تتعلق بفكرة تعلم الاصطياد بل بالمشاركة في أكل السمكة الثمينة التي سبق صيدُها. فليس معقولاً، ولا مقبولاً، أن يذهب الخليجيّون لوحدهم ب"الهبرة" كما قال سفير اليمن في جامعة الدول العربية قبل أقل من شهرين. يعلم الخليجيّون قبل غيرهم أنهم لم يصطادوا سمكة قط، وأنّهم أحوج من يكون لتعلم " الجنيص = القنص". مرّة أخرى: لقد أراد الإرياني أن يقول لهم اطعمونا من السمكة التي اصطادتها لكم، ولنا، العناية الإلهية. لكنّه تستّر تحت عباءة الباحث عن الحقيقة، مُريد الوسيلة، لكي ينعم بمسافة دبلوماسية تباعد بين أطروحته وبين مقولة "الخليجيّون يملكون ونحنُ نستاهل" التي أهاننا بها أحد صبيانه عبر قناة العربية. اشتكى المقالُ المشار إليه من عدم قدرة الدولة اليمنية على استيعاب العمالة اليمنيّة وما تضخه مؤسسات التأهيل والتعليم. بيد أن السيد الإرياني لم يفصح في مقاله عمّا إذا كان المطلوب هو أن تستوعب أجهزة الدولة في البحرين أو الكويت، مثلاً، ما عجزت الدولة في اليمن عن استيعابه؟ أم أنه يقصد سوق العمل، برمّتها، في هذه الدول؟ بالمناسبة: لا توجد دولة في العالم بمقدورها أن تزعم أنها قادرة على استيعاب الأيدي العاملة المحلّية بما في ذلك إمبراطورية روما القديمة في عهد الباكسا رومانا! لكن، وهذه معلومة ساذجة جدّاً، تبحثُ كل دول التاريخ عن وسيلة لإطعام شعبها ليست من ضمنها التوسّلات التي على الشاكلة المشار إليها. لقد بلغ الأمر بالنازي هتلر إلى القول، في كتابه كفاحي Meine Kampf، أنه لن يسمح بأن تسقط دمعة فقير ألماني بينما يوجد الخبز في دولة أخرى في العالم.
حسناً .. هُناك سؤال مبدئي: لماذا لا يشارك سوق العمل "اليمني" في استيعاب هذه العمالة المتوجّع منها؟ ببساطة: لأن سوق العمل اليمني جملة مفرّغة من المعنى فلا وجود لاستثمار حقيقي يمكن أن يشارك في امتصاص الأيدي العاملة من الأرصفة التي هي مجالس القات. فالسوق الأكثر نموّاً في اليمن هو سوق القات، ومعدّل نمو هذا السوق يتناسب طرديّاً مع ارتفاع معدلات البطالة وعكسيّاً مع حاصل جمع النشاطات الاستثماريّة في اليمن ( يوجد في اليمن 126 مليون شجرة قات، بحسب إحصائية محلّية). في الموازاة، يرقدُ اليمن على "بحرين وخليج ومحيط ومضيق" ويتمدّد على صحاري وجبال ووديان وجزر وشواطئ، ويمتلك إنساناً صلباً قوي الشكيمة شيد مدنه على قمم الجبال وطريق السيل. فضلاً عن تاريخ مجيد يمكن استلهام روحه المثابرة وعناصره الفارهة لملء فراغ فقدان الثقة بالذات الحضارية والتاريخية. إنه تاريخ دفع بملكنا القديم، تبّع، إلى التحدّي: من أقوى من اليمن؟ لم يجرؤ أحدٌ آنذاك على إجابته بالقول: البحرين، أو عُمان!
لم يقُل الإرياني للإخوة في الخليج أن سوق العمل في اليمن بدائي جدّاً، وأنه ربما لا وجود له بصورة حقيقيّة، لأسباب لا علاقة لها باليمن الإنسان ولا اليمن الجغرافيا ولا اليمن التاريخ، بل بفلسفة الحكم. لم يخبِرْهُم أن النظام في اليمن لا يزال حتى هذه الساعة يعتقد أن الطريقة الوحيدة لإحداث نهضة حقيقيّة وتحول جاد هي أن ينحسر خليج عدن عن جبال من ذهب، وصحراء شبوة عن بحيرة من نفط! هذه ليست طرفة، إنها الفكرة التي نامت في رؤوس السادة منذ عشرات السنين. هل يمكن لشخص يعيش نهاية العقد الأول من الألفية الجديدة أن يتخيل التالي: تتبنى الحكومة، في الواقع: النظام، خطّة "تنمية وبناء" تعتمد بشكل جوهري على 200 دولار شهريّاً. تقول استراتيجية مرحلة البناء والتنمية أنه من المتوقع أن يحوّل العامل اليمني في الخليج، الذي لا يُعرف على جهة الدقة احتمال سفره، مبلغ 200 دولار شهريّاً. وبالصلاة على النبي: حاصل ضرب عدد العمال في مئتي دولار سيدخل اليمن القديم في مرحلة اليمن الجديد! يجوز أن أذكّر القراء بهذه القصة الطويلة: ذكر الجهاز المركزي للرقابة أن طالباً فاشلاً، أحسنت الصدفةُ اختيار والديه، حصل على مبلغ 80 ألف دولار في سنة واحدة في ماليزيا. أي: ما يعادل التحويلات المتوقّعة لأربعمائة عامل يمني في الخليج، بحسب خطة التنمية الجديدة .. ويا حلو صبّح، يا حلو طُل!
إن هذا النظام يحتقر الإنسان اليمني بعمق، فهو إنسانٌ غير قادر وغير مؤهّل لأن يكون قادراً كما لو كان يعاني من خلل بنيوي في تفكيره ونفسيته، يعتقد النظام اليمني. يتجلى هذا الاحتقار في محاولة تزويج الجماهير اليمنية عرفيّاً، أو بأي ثمن، لأي شعب في العالم. فما انفكّت القيادة السياسية تحرّج بنا على الغادية والرائحة: خذوهم عندكم ينولكم ثواب! يصفّق عناصر النظام لأن جهةً ما أخبرتهم أنها قادرة على استيعاب نصيب من العمالة الماهرة اليمنيّة، بغض الطرف عما إذا كان نزيف العقل اليمني الشحيح سيتسبب في خروج اليمن للمرة الأخيرة من التاريخ بصورة سرمدية. فما يهم هو أن ينتهي هذا الصداع المسمى الشعب اليمني إلى أي جهة. إن مشكلة اليمن، يظن النظام، هي الزيادة السكّانية، وعليه فإن تحديد النسل أصبح أمراً حاسماً بالنسبة للأجيال الجديدة، مثلما أن تهجير الأجيال القديمة إلى خارج اليمن أمرٌ جوهري بالنسبة لعناصر النظام. لكن المقزّز هو أن غالبية عناصر هذا النظام يعددون الزوجات لهم ولأبنائهم ويكاثرون البنين والحفدة ولا يخشون الفقر. كما أن أبناءهم يتفسّحون في دول العالم الأول تحت ذريعة "طلب العلم"، ويعودون إلى صنعاء بعقول بيضاء،يئنّ أكثرهم لباقة: تعبت أقدامي في المطارات (يا بختك يا عم)! قلت لسائق تاكسي: لمن هذه الفيلا؟ قال ببرود: لأحد المدافعين عن الوحدة اليمنية. أضاف: يخافون عليها لأنها تبيض لهم وحدهم ذهباً وفضة. غمزته: وأنت؟ علّق ببرود: سأدافع عنها مع أول بيضة تقعُ في يدي.
الدكتور الإرياني هو المستشار السياسي للسيد الرئيس. لست في معرض النيل من شخصيّته فأنا أدرك أن الله يستحي من كل ذي شيبة. بيد أني أتساءل: كيف قاد الإرياني حملة خصخصة المؤسسات العامة، بما فيها 55 مصنعاً في الجنوب، ثم يأتي بعد أكثر من 15 عاماً ليبكي عجز الدولة عن استيعاب العمالة. في الواقع: قام النظام اليمني بإحضار جماعة من عناصره الفاعلة أطلق عليهم اسم رجال أعمال. استلم هؤلاء الرجال مؤسسات الدولة وسقّعوها بطريقتهم، وباعوها خردة وأرضاً للبناء. يقول تقرير صالح باصرّه (وربما هلال): كان نتيجة هذه العملية أن خسر 25 ألف عامل في جنوب الوطن وظائفهم.
كنّا نتوقّع، ولا حيلة لنا سوى التوقع، أن يهمس السيد المستشار في أذن رئيس الجمهورية ببعض الأفكار التي عاد بها من أميركا، فيما يخص دور الدولة في الاقتصاد ومرحلة ما بات يعرف في الاقتصاد الحديث ب "عصر صبيان شيكاغو". لكن يبدو أن السيد المستشار، وهذا مجرّد احتمال، درس في أميركا في وقتٍ لم تكن فيها الجامعات الأمريكية أميركيّةً بما يكفي. وربما أيضاً لأنها لم تكن تبسطُ أجنحتها لطالب العلم، برغم حقيقة أن 41% من الحاصلين على نوبل هم خريجو هذه الجامعات! تُرى ماذا كان هؤلاء الأعاريب يفعلون في أميركا؟
صبيان شيكاغو هو المصطلح الذي أطلق على أساتذة الاقتصاد الجديد، الأسواق المحررّة عن رقابة الدولة، يتقدمهم الأميركي الشهير: ميلتون فريدمان والنمساوي جون هايك. ومنذ وصول ريغان إلى البيت الأبيض وتاتشر إلى رئاسة الحكومة في بريطانيا تغيّرت قواعد السوق على نحو ثوري يُعتقد أنه تسبّب في أزمة "قبريّة" بالنسبة للمفكر الإنجليزي الراحل "مينارد كينز" صاحب فكرة تدخّل الدولة في إدارة السوق، والرقابة عليه. الفكرة التي تسخر من عقيدة : السوق تصحّح نفسها، السخرية التي ترِد الآن بصورة مأساوية على لسان صاحب نوبل في الاقتصاد "جوزيف ستغليتز". فمنذ ريغان وتاتشر اندفعت كل دول العالم، باستثناءات قليلة جدّاً، نحو التخلي الفوري عن التحكم في السوق حتى انحصر دور الدولة في توفير المناخات والتشريعات والبنى التحتية وحسب. بل أبعد من ذلك: نشوء المقولات الجديدة التي تضيق ذرعاً بالدولة باعتبارها مجرّد "تنّين، ليفياثان" كما أطلق عليها توماس هوبز قبل ثلاثة قرون.
عندما جاء الدور على اليمن قام النظام بحصر الممتلكات العامة ثم توزيعها على رجال الأعمال الجدد: تجّار الصدفة. لم يتساءل النظام: ماذا بعد بيع الأصول العامة. وهكذا حصلت اليمن على مئات الآلاف من العاطلين ( أكثر من 45%). وعندما اختلط الأمر على النظام في اليمن، كما هي عوائده، احتفظ بذراعه الاستثمارية "المؤسسة الاقتصادية" على طريقة الاقتصادات الأسيوية حيثُ تدخل الدولة كمستثمر منافس.. لقد كانت النتيجة أن المؤسسة الاقتصادية لم تحقق أي أرباح بالمرّة.
لم يكن هذا هو السبب الوحيد، فهُناك أسباب أخرى جسيمة جدّاً يمكن أن تفسّر تأسّف الإرياني على عدم قدرة الدولة على استيعاب العمالة المحليّة. فالبنية التحتيّة للاستثمار حتى هذه اللحظة فقيرة وهشّة. إن الاستثمار يحتاج "هاردوير" متماسكة ومستدامة، كالاتصالات وجهاز العدالة والكهرباء والمياه والعمالة الماهرة المدرّبة .. إلخ. وهي عناصر جوهرية فشلت الدولة في توفيرها بالكامل. أي أن دخول اليمن في سياق الخصخصة لم يكن ضمن مشروع اقتصادي طويل المدى، بل عمل مافوي بغيض هدَف على نحو مؤقت ونفعي إلى تصفية الأصول العامة ،ثم لا شيء بعد ذلك. لقد مكث الباعة المتجوّلون في مجالس القات العُليا ينتظرون أن يكتشف قمرٌ صناعي شارد بحيرة نفط ما بين شبوة وسيئون!
إلى يومنا هذا لا يوجد قضاء إداري في اليمن. أما القضاء التجاري فلا يزال رضيعاً تحاصره عشر سيارات مليئة بالمسلّحين يتبعون الشيخ الغادر. فقد نشرت وسائل الإعلام قصّة مرعِبة: مسلّحون يتبعون الشيخ الغادر قاموا باقتحام المحكمة التجاريّة للحصول على حكم " تجاري" لصالح ولي نعمتهم. كانت العاصمة صنعاء مسرح هذا الحدث بعد أربعة أشهر من مؤتمر الاستثمار في عدن. إنه مجرّد حدث رمزي يضع على الطاولة إجابة ناضجة تهمس في أذن السيد الإرياني: تحت هذه الحوافر يئن الاستثمار، وعلى أزيز رصاص هذه "الشخصيات الوطنية" يخرج آلاف العاطلين إلى العراء! الأمر لا علاقة له بقلّة الموارِد، كما زعم د. مجور العولقي، بل بتدمير المورِد البشري على أيدي بشر مثلهم كما تؤكد الوقائع. إنّ الله لن يساعد الذين لا يساعدون أنفسهم .. هكذا، بالضبط، كما نطقها الرئيس المصري في قمّة الكويت الأخيرة!