بعد العودة من ألمانيا وزيارة لذلك البلد استغرقت عشرة ايام لدي الكثير من الانطباعات والزيارات عن ذلك البلد والتي أحب ان نشارككم اياها. اتناول هذه الانطباعات في ثلاثة محاور: الطقس، أفراد المجتمع الألماني، وسائل مواصلاتهم العامة، واللغة. الطقس مدة النهار هنا في برلين في فصل الشتاء فقط ثمان ساعات وتتقلص لتصبح ست ساعات، حاليا تشرق الشمس في الساعة السابعة والنصف وتغرب في الرابعة والنصف. الطقس في المانيا متقلب لدرجه تصعب التنبؤ به. الشمس لا تشرق الا ساعات قليلة وربما لا تشرق أبدا. قد يكون اليوم غائماً وبارداً، وفجأة قد يصبح مشمساً. تمطر فجأة وتسقط الثلوج فجأة كذلك. لدي الألمان مثل يقول «اثنين في المانيا لا يمكن الوثوق بهما- الطقس والمرأة». عندما حدثت طلابي عن ذلك المثل ردت علي إحدى الطالبات وبنبرة امتعاض قائلة «اثنين في اليمن لا يمكن الوثوق بهما: الكهرباء والرجل».
عادة الألمان يعتقدون أن البرد مصدر كآبة وحزن، وهم يملون من الأمطار الغزيرة وربما يكرهونها حيث تمطر بغزارة ويوجد لديهم أكثر من 513 نهراً. بالمقابل يعتقد الألمان أن الشمس مصدر السعادة وحرارتها تعطيهم الفيتامين الخاص بالسعادة. ولذلك تقول ماري هاينتس (Marie-Christine Heinze) الباحثة الألمانية في «رمزية الجنبية اليمنية» والتي عادة ما نلقبها بالشيخة ماري لقوة شخصيتها. «إن الألمان يدعون الله أن يعطيهم شمساً كما تبتهلون إليه أنتم في اليمن أن يعطيكم مطراً ونحن هنا نغني للشمس ونقول شعراً فيها كما أنتم تغنون للمطر وتقولون فيه شعراً».
وعلى الرغم مع رداءة الطقس وقسوته وقصر الأيام الشتوية يعمل الألمان إلى الساعة العاشرة ليلاً وأحياناً حتى منتصف الليل إذا اقتضي الامر ذلك. علاوة على ذلك، يلحظ على الشعب الألماني انه عملي للغاية وأدائه يتميز بالدقة. منضبطون في مواعدهم ونمط حياتهم.
نعم تشعر بقيمه الوقت وانت في المانيا، تستقل باصاتها وقطاراتها. تأخرك لمده دقيقة يعني أن هناك قطارا فاتك وعليك أن تنتظر عشر دقائق للقطار التالي.
علق احد اصدقائي مازحا علي ذلك الانضباط والدقة التي يتميز بها الالمان قائلاً «حين يريد اي من الألمان أن يزور صديقا او يذهب إلى مركز تسوق يبدأ بإعداد خطه سير من الليل وكأنه سيسافر إلى مدينه أخرى، فيُجهز خريطة للموقع الذي سيزوره ويتصفح الانترنت ليراقب مواعيد القطارات».
أصبح ذلك الانضباط والدقة لدي الألمان ثقافه مجتمعيه متجذره وسلوك عند الإفراد أشبه بالروتين العادي وغير المجهد الالتزام به. جعل ذلك الروتين الافراد يتحركون ويسرحون وفق لتلك القواعد والنظم دون أدني تفكير للخروج عن تلك القواعد. فمثلا تكون إشارة مرور المشاة (وليس السيارات) حمراء اللون والشارع خالي تماماً بالسيارات وبعد منتصف الليل. رغم ذلك تجد الافراد ينتظرون حتى تصبح الإشارة خضراء مع أنه لو قطع الشارع وبينما الإشارة حمراء لن تسجل عليه مخالفة.
الحياه الاجتماعية ومفهوم الصداقة عند الألمان يعطيك الألمان الانطباع ومن أول وهله انهم جادون في حياتهم وهم كذلك. تنظر إلى وجوههم في المحطات وعلى متن الباصات تجد علامات الجدية مرسومه على وجوههم. نادراً ما تلاحظ الالمان يضحكون حتى يخيل لك أنهم يعيشون تحت ضغط كبير.
لا تسمع لهم همس او ضجيج في الشوارع أو وسائل المواصلات العامة وكأن على رؤوسهم الطير. لا يتكلمون مع أصدقائهم داخل العربات إلا قليلاً وإذا سمعنا صوتا أو صخبا فلا تعدو ان تكون أصوات كلامنا وقهقهتنا بالضحك نحن.
رده فعلنا لتلك الملاحظة ان أحد من زملائي علق على مثل ذلك السلوك الجاد عند الألمان مازحا «اذا ما أخذنا بفقه الواقع والمعاصرة وطبقناه فإن حرمه الخمر تكون قطعيه ومشدده في بلداننا بينما يكون تناوله في المانيا مندوب». ولدهشتي من قوله استرسل شارحا «أننا سكارى بالطبيعة، والالمان كما تري لا يضحكون ويحتاجون ليخرجوا من الجدية التي يعيشون فيها وقد يساعدهم الخمر على ذلك».
على النحو الاجتماعي، فإن الألمان لا يبدون ودودين من أول وهله. على نقيض الأمريكيين الذين يبدون اللطف والود من أول وهله ويبتسمون للغرباء في شوارعهم ومكتباتهم. حقيقة انها من الصعوبة بمكان ان تبني علاقات صداقة حقيقية ووطيده مع الألمان. بمعني آخر انه قد يأخذ الوقت طويلاً حتى يكون لك صديق ألماني، وقد يأخذهم من الوقت طويلاً ليبنوا حتى علاقات صداقة مع بعضهم البعض. وبدافع من الفضول والاستطلاع بقيت أبحث عن الأسباب وراء ذلك.
من تساؤلاتي بدا لي أن الالمان لديهم مفهوم عن الصداقة يختلف عن مفهومها لدي كثير من شعوب العالم. فالألمان يعتبرون أن الصداقة مسؤولية لها من تبعاتها والتزاماتها الكثير ما يجعل الفرد ينظر الي صداقاته بجدية.
فعنما يعدون فرداً ما صديقا فيعني أن تكون معه في أي وقت يحتاجك لتشاركه مشاكله وهمومه ولحظات سعادته ايضا. ولذلك يأخذهم الوقت طويلا لكي يبنوا علاقات صداقة مع بعضهم ولكن من الصعب ان يتخلوا عن تلك الصداقة بعد تكوينها. وذلك يكون طبقا للقول السائد «ما جاء بسهوله يذهب بسهوله وما أتي بصعوبة يذهب بصعوبة أيضا».
المواصلات العامة هناك قول شائع وسائد يقول انه إذا اردت أن تتعرف على ثقافة أي شعب ومدي رقيه أو انحطاطه فانظر فقط إلى الطريقة التي تسير بها حركه المرور في تلك البلد وكيف تنظم مواصلاته العامة.
في المانيا لفت انتباهي شيء هام للغاية وهو الطريقة التي يستقل بها الأفراد القطارات أو يركبونها. طريقه مختلفة عما اعتدت عليه في كثير من دول العالم التي زرتها كماليزيا، وسنغافورة ومصر. في تلك الدول وبعد شراء التذكرة يصطدم الفرد بحاجز حديدي لا يسمح له بالدخول إلا بعد أدخال البطاقة الإلكترونية. بعد إدخال تلك البطاقة يتسنى للعبور إلى محطات انتظار القطار.
بالنسبة للألمان راوا ان مثل هذه الطريقة تعرقل حركة الناس وتؤخرهم عن عملهم. فلا يحتاج اي فرد ان يمر على ذلك الحاجز الالكتروني بعد شراء التذكرة، ولكن ليعبر إلى اماكن انتظار القطار مباشرة. لا يوجد رقابة على الافراد او فحص إذا ما كان أحدهم اشترى تذكره ام لا.
فقط يمر مفتش ليفحص التذاكر مع ان احتمالية مرور المفتش لا تتجاوز ال1%. بمعنى أنه إذا فكر أي فرد ان يستقل القطارات ووسائل المواصلات مجاناً ومخادعاً فانه يستطيع ذلك واحتمالية اكتشاف أمره لا تتجاوز ال1% ايضا. ومع ذلك تجد كل الافراد يشترون تذاكرهم ونادراً ما تجد شخص يحتال ولا يشتري تذكرته.
مثل هذه الظاهرة أصبح سلوك متجذر لدى الالمان حتى انهم يعلمون أطفالهم بحمل تذاكرهم ولو لم تكن غير حقيقة لأن الأطفال حتى سن العاشرة يحق لهم ان يستفلوا القطارات مجاناً.
اللغة آخر ملاحظة لي أسردها هنا أنني أدركت هناك ان للغة بشكل عام سحر عجيب. فناهيك عن كونها أداء تواصل وتمثيل فهي أداة تقرب الشعوب لتختفي وتختزل كل الفوارق الثقافية والجغرافية فيما بينها.
الألمان الذين يتكلمون العربية ويعملون ابحاثهم عن اليمن أبدوا بنا حفاوة بنا منقطعة النظير. بعض من الالمان الذين يتحدثون العربية وهم ندر وعرف ملامحنا الشرق الأوسطية لا نجد الا وقد اقتربوا منا يحيونا قائلين «السلام عليكم» ويبدؤون بالتعريف عن أنفسهم. تجولنا في بعض الشوارع وذهبنا مع بعضهم الى مطاعم فتجدهم يسارعون الى دفع الحساب ويحلفون كما نفعل نحن.
أحد البروفسورات الذي عمل نائباً للسفير في اليمن الشمالي في السبعينات ومن ثم سفيراً لليمن الجنوبي سابقاً دعانا الى عشاء وفي اليوم التالي دعانا لنزور متحف التاريخ الشرق اوسطي والتاريخ الاسلامي وأصر بقوة ان يدفع قيمة تذاكر دخولنا.
جعلني ذلك ادرك امرين هامين: الأول: ان الهجمة الإعلامية التي تشن على المسلمين من قبل الاعلام الغربي والتي فعلت بهم مالم تفعله به جيوشهم وسلاحهم حين أعطت صورة نمطية وسلبية عنهم لا يمكن ان تواجه بإعلام مضاد وفقط. وانما يمكن مواجهتا بإنشاء مراكز تعلم الناس اللغة العربية ومراكز تدعم الباحثين الغربيين المهتمين بمجتمعاتنا وثقافتنا. فمن ناحية أولي ستكون اللغة نافذة يتسنى للكثير من الغربيين أن يطل من خلالها على مجتمعاتنا ليتعرف عن قرب عن ثقافتنا ومعتقداتنا وأسلوب حياتنا. ومن ناحية أخرى سيكون الباحثون الغربيون المدعومون من قبل تلك المراكز سفراء لشعوبنا. فمن خلال ابحاثهم سيقدمون لشعوبهم فهما أعمق وأدق عنا، وبالمقابل سيعكسون صورة إيجابية مغايرة لتلك الصورة السلبية التي طبعها الاعلام الغربي في اذهان الكثير من الغربيين.
مثلاً، جميع الباحثين الالمان الذين قابلناهم يعرفون عن اليمن الكثير ولا يوجد لديهم أدنى شك بان اليمن شعبه اصيل وليس شعب إرهابي وعنيف كما يصوره الاعلام. ولم يكن السبب وراء ذلك إلا انهم يتحدثون اللغة العربية وبطلاقة.
والثاني ان قضية اللغة جعلتني ادرك كم ان الامريكيين محظوظين ان لغتهم يتحدثها نصف سكان الكرة الأرضية فيجد الأمريكي نفسه مرحب به في كل زاويا من زوايا العالم التي يروح بها لا لشيء إلا لأن لغتهم يُتَكلم بها.
يجعلني ذلك أتساءل كم سيكلف دول الخليج لو فتحوا مراكز لتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها ليكون هناك أناس يعرفونك عن قرب ويعرفون عن ثقافتك ومجتمعك وبالمقابل يكنون احتراماً لك مبالغ تصرف على مثل هذه المراكز ستكون رخيصة مقابل خلق نوافذ ليطلع من خلالها افراد العالم عليك.
بنفس الوقت الكثير من العرب ينظر إلى الألمان كشعب صديق، تاريخيا لم يتلوث حكامهم او سياسة بلدهم بشكل عام بشيء من مشاكلهم. ولديهم الرغبة لكي يعرفوا الكثير عن بلدهم وثقافتهم. ولن يكون ذلك إلا عن طريق اللغة. ومن هنا يتوجب على المانيا أيضا ان تنشئ مراكز لتعليم لغتهم وتجعل الانتساب إليها متاحا وشبه مجاني. ومن هنا يكون التقارب بين الشعوب والتداخل فيما بينها.