[1] من المناسب جداً في ذكرى انطلاق الثورة الشبابية الشعبية أن يهتم أصحاب المصلحة المشروعة فيها بإعادة إحياء أبرز هذه الأهداف تحديداً التي كان الشعب يريدها عندما خرج إلى الساحات والميادين، واعتصم الشهور الطويلة، وتحمل المشاق والعدوان، وواجه جبروت نظام علي صالح وصلفه، وتحداه باستشهادية نادرة، ولم يبخل بأرواح ولا دماء حتى أوصله إلى التوقيع على مبادرة تنحيته من الحكم.
إعادة التجديد هذه ليس الغرض منها ملء فراغ أوقات الاحتفالات، ولا تقليد الأنظمة الحاكمة في الوطن العربي التي تعودت على إحياء المناسبات الوطنية والإسلامية في الإذاعات وأجهزة الإعلام بحماس يتناقض مع حقيقة أنها صارت النقيض المؤسف لكل القيم الوطنية والإسلامية التي تعيش على المتاجرة بها؛ لكن الغرض المطلوب من تجديد جوهر الثورة الشبابية هو إعادة الوهج لأبرز أهدافها، وتذكير الثوار بأن المهمّة لما تنته بعد، وأن الوقت ليس وقت التنازع، والفشل، والتنابذ، والتنافس حتى ولو كان مشروعاً؛ لأن أهداف الثورة الأساسية لما تتحقق بعد، والذي تحقق منها وهو تنحية رأس النظام السابق لم يزل يواجه صعوبات وتحديات مسلّحة، ومؤامرات داخلية وخارجية لاستدراك ما حدث على الطريقة.. المصرية!
[2] لم تواجه ثورة فبراير نظاما ضعيفا ولا ساذجا حتى يمكن القول إنه انتهى بمجرد تنحية الرأس وبعض الغصون منه، ولا يمكن القول إن تنحيته كانت اقتناعاً منه بالسلام ورفض سفك الدماء؛ كما يحاول إعلامه تسويق الأمر (ربّما للحصول على جائزة نوبل للسلام!).. فالشهادة لله أن النظام السابق بذل ما يتقنه من وسائل إجرامية لإجهاض ثورة الشعب ضده، ولم يوفّر مؤامرة سياسية ولا عسكرية دموية إلا ونفذها. لكن قدر الله كان أقوى من كل مؤامرة. فقد أيقن رأس النظام أنه يواجه قوى شعبية وسياسية متمرسة على التعامل مع ألاعيبه، وقادرة على قراءة خطواته التالية. والأكثر أهمية أنها ليست معزولة عن الشعب؛ بل كانت حتى عشية الثورة متقدّمة على الشارع في مطالبها ورؤيتها لجوهر الأزمة ومقتضيات الحل، وعندما نزل الشباب – بفعل قوة تأثير ثورات الربيع العربي التي تفجّرت في تونس ومصر- ولحقته جموع الناس والأحزاب؛ التقت القوة الشعبية العفوية بقوة الأحزاب السياسية وخبراتها التنظيمية لتشكلا العمود الفقري للثورة الشعبية الشبابية في مواجهة نظام حاول الخروج عن مسار التاريخ الإنساني التواق للحرية والعدالة والمساواة، فأخرجه الشعب من التاريخ كله! نقول ذلك تذكرة للبعض الذي يظن أنه هو الذي فجّر الثورة، ويريد احتكار حقوق الثورة لنفسه ناسياً أنها ثورة شعبية وليست انقلاباً يُخطط له في الأقبية والغرف المظلمة. ونقوله لرموز النظام السابق الذين ما يزالون (كما ظهر في الهجوم المجنون على ذكرى الثورة في وسائل إعلامهم الأسبوع الماضي) أن الذي حدث هو من جنس جوهر الثورات اليمنية السابقة التي هم أول من يتاجر بشعاراتها، ويلتصق بها التصاق الديدان بالأمعاء لامتصاص الغذاء منها. فالشعب الذي ساند ثورتي سبتمبر وأكتوبر هو نفسه الذي ساند ثورة فبراير. بل ربما كان الدور الشعبي غير المنظّم في مجريات المواجهة أكثر وضوحاً وشعبية وتلقائية في فبراير عمّا سبقها.
ونقوله أخيراً لقوى الثورة السياسية التي بدا بعضها - للأسف الشديد- يغير تحالفاته بانتهازية رخيصة؛ ولو ألقت به في أحضان النظام السابق، وتجعله يقف صفاً واحداً مع الثورة المضادة التي تعمل لإجهاض ثورة فبراير، وتجعله لا يتردد في أن يُسهم في مدها بالأكسجين وشيء من المشروعية الإعلامية والسياسية؛ تبلبل الخواطر وتخلط الأوراق على الساحة، وتفشل في التمييز بين التناقض الرئيسي والتناقض الثانوي، وترتيب الأوليات، وكيفية إدارة الخلاف وتباين الآراء ووجهات النظر بين قوى الثورة نفسها! وصحيح أن هذه الحالة ليست مستغربة في التاريخ الإنساني؛ فقلما نجت ثورة أو حركة تغيير من ثورة مضادة تنقض عليها؛ وأحيانا كثيرة من داخلها؛ لكن يبقى اصطفاف من كانوا ثواراً مع العدو الأصلي محزناً ونوعاً من "المجنانة" والعبثية في تقدير الأمور. وعلى أية حال؛ فليس كل الثورات المضادة تنجح في الأخير، وخاصة إن نجحت قوى الثورة في تلافي سلبياتها، وتجاوز أمراضها الذاتية، وتذكر جوهر أهداف ثورتها، والالتفاف عليها والعض عليها بالنواجذ، وتكريس قيمها في العقول قبل الواقع مهما كانت الخسارة الظاهرة على مستوى الطموحات الشخصية والحزبية!
[3] ينبغي التنبه إلى أن السبب الرئيسي (وربما الأوحد) في نجاح أي ثورة مضادة هو في غفلة قوى الثورة المنظّمة والشعبية عن الهدف الأبرز للثورة، مما يجعلها تهرول لافتعال المشاكل فيما بينها، وتقديم المهم على الأكثر أهمية بل والثانوي منها، وتعجز عن التفريق بين العداوة الأصلية والخصومة المشروعة. والبعض منها يندفع مثل الأعمى المجنون الذي يحمل عصا غليظة لا يفرق بها بين من يقف بجانبه وبين من يحفر له قبراً من دهائه! ومن نافلة القول إن الربيع العربي صنعته عقود طويلة من القهر والمظالم واحتكار السلطة والتعامل مع الشعوب كالمتاع والماشية! ومن نافلة القول أيضاً إن قوى التغيير العربي منذ مطلع التسعينيات، ومن قبل قليلاً، كانت قد وصلت إلى قناعة بأن الاستبداد السياسي هو الآفة التي ضربت في الصميم أحلام الشعوب في الحرية والتقدم والعدالة والمساواة. وآمنت أيضاً أن الصراع الدموي بين الطلائع العربية بعضها بعضاً كانت نتيجته في ميزان الطغيان والاستبداد الذي هيمن على كل شيء، وألغى كل أحلام النضال الشعبي خلال سنوات مواجهة الاستعمار وعملائه، وكانت حصيلته أن الجماهير نفضت يدها يأساً منهم فتمكن الطغيان من الحكم بأسوأ الوسائل: طائفياً ومناطقياً وقبلياً وعائلياً، ممزوجة بتبعية عمياء للعدو التاريخي للأمة! والمؤسف أنه رغم تلك الدروس والعبر التي بدا أن الجميع قد تعلمها، إلا أن الانتكاسة سرعان ما حلت في الصفوف، وانقلب دعاة الاحتكام إلى الشعب بوصفه مصدر السلطة وصاحبها (تذكروا كم قاتل البعض من أجل إثبات هذه العبارة ثم كيف انقلبوا عليها!) والدولة المدنية ورفض حكم العسكر إلى متآمرين مع العسكر، وصار الرضا بنتائج صناديق الانتخابات النزيهة نكتة يضحك منها الزعماء المخلوعون بعد أن رفسها بعض الثوار بأنانيتهم وخيانتهم لها (!) وهم الذين أصموا الآذان طوال سنوات عن ضرورة احترام الإرادة الشعبية الحرة ولو كانت لصالح الخصم!
كل ذلك تبخر تماماً في بلد مثل مصر بعد أن استولى العسكر ودُعاة الدولة المدنية المزعومون على السلطة بانقلاب عسكري، وكادت الفضيحة المصرية تتكرر في تونس، وها نحن في اليمن وقبل أن نبدأ أي استحقاق انتحابي نواجه المؤامرة نفسها، ولكن بصيغة أخرى ليس لها علاقة مباشرة بالانتخابات وإن كانت تكرر أخطاء الماضي! والخطأ الذي نظّن أن البعض (من داخل الصف الثوري) يرتكبه يمكن ملاحظته في سعيه لفرض أجندته الحزبية والطائفية عن طريق المساومات والتهديدات، وسياسات حافة الهاوية، والتلويح بانهيار البلاد وتفككها، إن لم يؤخذ بمشروع ما من مشاريعه السياسية، ناهيكم عن إثارة البعض للفتن والقلاقل، وإثارة البلبلة والإشاعات وصولاً إلى التحالف مع عدو الشعب والثورة الذي ما يزال يتربص بالجميع ليعود إلى سدة الحكم. الاختلافات والتباينات بين قوى الثورة ليست معدومة ولا هي عيب ومنقصة. وسر نجاح اللقاء المشترك اليمني أنه نجح في أن يحافظ لكل طرف على خصوصياته، والتركيز على ما يجمع باتجاه تحقيق أهداف التغيير، وإعادة إصلاح الحياة السياسية وفق أصول الممارسة السياسية الديمقراطية. وكل ذلك كان مفهوماً، لكن البعض نسي في حومة التجاذبات والمشاكل التي ظهرت في الفترة الانتقالية (وبعضهم بدأ مهمته غير المقدّسة مبكراً أثناء أحداث الثورة) هذه الحقيقة البسيطة، وراح يتصرف وكأن السفينة قد وصلت إلى النهاية، وبدأ يتناسى ما يجمع إلى العمل على إثارة ما يفرق متستراً بأفعاله بالشعارات المألوفة التي يرفعها كل خاسر ظن أن العصفور طار من يديه. أو طامع لم يجد ما يسد طمعه!
[4] لكيلا ننسى ونندم؛ فجوهر ثورة 11 فبراير 2011 هو إقامة نظام ديمقراطي صحيح يمارس في ظله الشعب حقه في إدارة بلاده، وتحقيق مصالحها، وعبر التعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة؛ وبحيث يكون الشعب هو صاحب السلطة الحقيقية ومصدرها عبر الانتخابات الحرة النزيهة. ومن خلال إرساء هذا النظام الدستوري السليم تنفتح الأبواب للجميع للمشاركة الشعبية العادلة في السلطة والثروة. فيحكم البعض ويعارض الآخر. ويتبادل الجميع المواقع دون مؤامرات أو تزوير، وبرضا تام بقرار الشعب مهما كان مريرا! هذا الهدف بات واضحا أن جوهره غاب عن بعض الأخوة الذين يثيرون المشاكل هنا أو هناك، ويتحالفون مع أرذل القوى السياسية؛ خوفاً من الوصول إلى مرحلة الاحتكام النزيه إلى الشعب؛ ظناً منهم أنه لن يكون لهم فيها موقع مناسب. وأمثالهم في مصر نفضوا أيديهم تماماً من هذا الهدف، وأعادوا استنساخ مآسي الماضي بصراعاته الأيديولوجية والأنانية دون أن يعوا أنهم بذلك يحفرون قبراً جديداً لهم قبل غيرهم! ما زلنا في اليمن في أمان إلى حد ما حتى الآن، لكن المؤامرة كشرت عن رموزها وأهدافها. وكما يفضح الصبّ عيونه فهؤلاء تفضحهم وتفضح تحالفاتهم وسائل إعلامهم وتصريحات رموزهم، وجوهر المؤامرة إفشال تحقيق الهدف الجوهري للثورة، والغنيمة قد تكون انفصالاً لفئة، وتأسيسا لكيان مذهبي لفئة أخرى، وإسقاطاً لليمن كُلّها في الفوضى عقاباً لمن رفعوا شعار: الشعب يريد إسقاط النظام!