الموالد في مصر سمة شعبية لا مثيل لها.. وليس بالضرورة أن يكون البعد الديني حاضراً فيها مثلها كمثل الموالد الأخرى في المجتمعات الإسلامية؛ فباستثناء بعض الطقوس الصوفية التقليدية فالمهم في الموالد هو الفائدة للقيّوم والبقبقة للولي.. والولي معروف وهو ذلك الرجل المسكين صاحب المولد المدفون في المسجد الذي صار رميماً وتراباً.. أما "القيّوم" فهم كثيرون يبدأون من المستفيدين الرسميين من زعماء أهل الطريقة والسلالة، ورجال الدولة بأصنافهم من أصغر عسكري حتى المحافظ، وينتهون بأصحاب المحلات والدكاكين والمطاعم، والبيع والشراء، والفرق الفنية الشعبية التي تقدم لمشايعي الولي الصالح المسكين كل ما يسرهم من أغانٍ ورقص وتمثيليات وألعاب بهلوانية، وطبعاً هناك عصابات الحرامية والنشالين: رجالاً ونساء وصبياناً، وكلهم يجدون في مولد أي "سيدي" سوقاً خصبة للعمل وقضاء الحاجات المشروعة وغير المشروعة ولا علاقة لها بالدين! وفي الذاكرة الشخصية مشاهد مماثلة لما كان يجري في الموالد اليمنية التي نسميها ب "الزيارة" التي كانت شائعة في عدن قبل أن يتم منعها في عهد النظام الشيوعي السابق.. فإحدى أشهر رموز زيارة العيدروس كما كنا نسمع هو أكلة الهريسة.. وفي الزيارات الأخرى توجد أشياء مثل ألعاب المشعوذين المبهرة ومنها السير أو التمدد على النيران أو الجمرات (زيارة الولي سفيان في لحج).. أما في زيارة الشيخ أحمد في التواهي فلا زلت أذكر أن ألعاب القمار واليانصيب كانت تنافس ألعاب المراجيح، وتأخذ أغلب وقت الزيارة! ••• ومنذ دخلت الانتخابات مصر أم الدنيا صارت طقوسها غالباً – بسبب التزوير والمزورين!- مثل طقوس الموالد الدينية: أكل وشرب، وفلوس وصفقات، وفرق رقص وفرفشة (تذكروا وصلات الرقص الساخنة أيام الاستفتاء على دستور العسكر الشهر الماضي!).. وكلها طقوس ضرورية لتمرير التزوير وإنجاح مرشحي الدولة! وكما يدعم المرشحون الحكوميون ورجال الدولة الطرق الصوفية في الأيام البيضاء (عندما يكونون على الكراسي!) تعيد إليه هذه الدعم في الأيام السوداء (في وقت الانتخابات!) حيث تلعب عادة الطرق الصوفية دوراً رئيسياً في حشد الأتباع لمبايعة الرئيس الضرورة، وإعادة انتخابه ومرشحي الحكومة (باستثناء المرة الوحيدة التي رفضوا دعم الرئيس محمد مرسي الذي عارضوه ودعموا إسقاطه والانقلاب عليه رغم الوحيد الذي يحمل صفة: إسلامي!).
ومع قرب الانتخابات الرئاسية آخر موديل؛ عادت أجواء الموالد الشعبية لتهيمن على مصر من جديد.. ولأن العسكر هذه المرة موجودون ربما بأكثر من مرشح فستكون الانتخابات أو المولد هذه المرة مشعللة على الآخر.. وباسم مولد: سيادة المشير والفريق.. (وكل عام وأنتم بخير)!
ولأن لكل مولد بهاليله أو مهابيله؛ فسوف يكون للمولد الجديد بهاليله من المرشحين المدنيين الذين سيكونون فرجة المولد، وبدأ الإعلام المصري الأوسخ في المنطقة منذ الآن يرتب لهم ألعاباً وحكايات من النوع المعروف الذي سيجعل مصيرهم مثل مصير حرامية الموالد عندما يتم إلقاء القبض عليهم، وضربهم وتلقينهم درساً صار مثلاً شعبياً معروفاً إذ يقال عنه: "ضرب ما يأخذوش حرامي في مولد"!
ولأنها أم الدنيا فليس المرشحون المهابيل المنافسون للعسكر هم فقط الذين سيأخذون ضرب الحرامية؛ فحتى المذيعون الذين لا ينخرطون في الزفة بإخلاص بدأوا يأخذون حظهم من الضرب تحت الحزام وفوقه، ورفع قضايا في المحاكم على الطريقة المصرية الهبلة بتهمة الإساءة لصاحب المولد: سيدي المشير! وكذلك بدأت الساحة المصرية تشهد تغيير المواقف السياسية، والانقسامات الحزبية منذ الآن.. ومن يرغب في الاطلاع على نماذج من ذلك بروح ساخرة فيمكنه مشاهدة حلقة برنامج "البرنامج" الأخيرة التي خصصها المذيع باسم يوسف للسخرية من هذه الحالة التي أشرنا إليها، وكشف فيها حقيقة حرامية أم الدنيا: المدنيين والعسكريين.. والإعلاميين!
المشكلة التي يواجهها العسكر والحرامية على حد سواء في مولد الانتخابات الرئاسية المتوقعة أنها باطلة من البداية.. ولا قيمة لها لأن العالم يعرف أن الشاويشية والحرامية اتفقوا كالعادة على سرقة صاحب المولد الأصلي، فخطفوه وحبسوه ويحاولون الآن الجلوس محله بطريقة دستورية كما يتوهمون!
قد نفهم أن العسكر الانقلابيين في مصر يريدون المضي إلى النهاية في مولدهم المزيف؛ ولو من باب توفير حماية ما لأنفسهم من المحاكم الدولية التي قد تجد مستقبلاً أن ضباط أمريكا اللاتينية وأفريقيا المجرمين ليسوا أقل منهم استحقاقاً للمحاكمة والعقوبة؛ لكن ما حكاية المدنيين الذين سارعوا للمشاركة في المولد؟ فهل يظنون مثلاً أن العسكر سوف يسمحون لهم بالفوز؟ أو لو سمحوا لهم بالفوز فسوف يتركونهم يحكمون مصر بحق كما يريدون؟ أو يرضون لأنفسهم أن يؤدوا التحية العسكرية ل "حتة" سياسي باع شرفه السياسي إرضاء لغروره وطمعه وأمله في أن يكون رئيساً لمصر في ظل نظام انقلابي قمعي؟ [بدأ بعض هؤلاء من أتباع المرشح الخاسر سابقاً الطامع حالياً: حمدين صباحي (أو عبده مشتاق كما يوصف!) في توجيه الاتهام للسيسي بأنه مسؤول عن الأخطاء خلال الفترة الماضية: المقصود الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبت ضد الإسلاميين وهم شاركوا فقط بالتصفيق والتهليل والتبرير!].. ألم يعتبروا بما حدث لرئيس انتخب بنزاهة لأول مرة في تاريخ مصر وها هو مختطف ويحاكم في قضية تآمر مع.. فلسطينيين وحزب الله ضد إسرائيل بالضرورة؟ ما هي قيمة أي انتخابات من أي نوع تجري في مصر بعد دروس العام الماضي إذا كان يمكن إلغاؤها بجرة قلم، أو في حالة العجز عن ذلك يتم تنظيم انقلاب عسكري: مصري عربي دولي.. ويسمونه.. ثورة؟ ألم نقل إنه: مولد.. وكل عام وأنتم بخير!