هل لازال بإمكاننا أن نسمع "يا أحبة ربى صنعاء "، أم أن الزمن قد عاد ل "خندقي قبري وقبري خندقي"؟ هل ستغنينا فيروز "حبيبي بدو القمر "، أم ترانا سنردد "نحن يا فيروز ما عاد لنا أذن تهفو وللحن تحنّ"؟ هل سنتوقف عن قراءة مستغانمي ونتردد على "كفاحي"؟. لماذا وجدتني أقرأ "عن الرجال والبنادق" لغسان كنفاني و"في انتظار البرابرة" لكوتزي، وأتوقف عن "طوق الياسمين" لواسيني الأعرج؟ لماذا أتردد على قصائد "الأرض اليباب" لإليوت بعدما كنت معجباً ب "شاعر من نيويورك" للوركا؟ لماذا بدأت أراجع الأسئلة البدائية الكبرى التي تركها جوستاين جاردر في روايته "عالم صوفيا"، من أنت وكيف جاء العالم؟ لماذا أشاهد فيلم Black like me الذي أنتج قبل أكثر من سبعين عاماً وأتجاهل فيلم "Gravity" لعام 2013.
الخسائر التي ستتركها ثقافة البندقية ليست في ضحاياها المباشرة فقط، بل في أنها تحول التوجه العام نحو المتارس بدلاً عن المدارس، نحو الموت بدلاً من الحياة، نحو الأسوار بدلاً من الفضاء المفتوح، نحو صناعة الأقفال بدلاً من تعلم الحاسوب، وسيكون لدينا جيش من المحاربين بدلاً عن المهندسين والأطباء.
لن تكون فقط مهمة قتالية لاستعادة الوديعة الإلهية بتعبير صديقنا الغفوري، بل هي مهمة لإعادة تعريف كل الأشياء. الجمهورية خرافة، المدنية فكرة غربية والديموقراطية نظرية أمريكية يهودية، الحرية فوضى، والمساواة فكرة مناقضة للدين، أما الدين فذلك الذي نقوله ونحدده والنبي هو الجد صاحب الوصية لأهل بيته، والحاكم هو هذه الطائفة المختارة من الإله، تلك التي تجري في عروقها الدماء الزرقاء! لن يكون الصراع حول السلطة بل حول تعريف الإنسان، ولن نختلف عن الحقوق بل عن مفهوم المواطن والمواطنة والدولة. هل سنكون شعباً أم رعية، موظفين أم أجراء، جنوداً أم عكفة، فلاحين أم سخرة؟.
لم تعد المسألة نقاشاً حول نظرية في الحكم والسياسة وطريقة الإدارة، بل عن طريقة جديدة للحياة تعاد فيها ترتيب الأولويات على طريقة إنسان الكهف! لهذا اعتمدت الثورة طريق السلمية لأنها كانت تعلم أن البنادق لا تصنع التنمية، وأن رجالها غالبا لم يعرفوا الجامعات، وأنه من العار أن نسلم القياد لهؤلاء الذين بلا خيال.
بعد يومين ستأتي جمعة الكرامة، ذلك اليوم الذي لم يكن مجرد يوم، بل كان تاريخاً بأكمله يبصق في وجوه القتلة والبنادق.
يبلغون الآن من العمر ثلاثة أعوام، سيلتقون آباءهم في النضال من الثورة الأولى وسيكتبون وصاياهم لنا. هل يصير دمي -بين عينيك- ماءً؟ أتنسى ردائي الملطَّخَ بالدم.. تلبس -فوق دمائي- ثيابًا مطرَّزَةً بالقصب؟ إنها الحربُ! قد تثقل القلبَ.. لكن خلفك عار العرب