كان الحوار منعطفاً فادحاً لا يلوي على غير توثيق محاضر وبيانات وأدبيات وسرديات لا حصر لها ، يقود ربما الى مرحلة أخرى ستكون بالطبع مأهولة بوسائل الإجهاز على ما تم التحاور بشأنه ، تماماً كما جرت العادة وجبلت عليها الخلائق . وعلى رقعة الشطرنج بقي الملك ملكاً والوزير وزيراً والبيادق اصبحت اقل (بيدقة ) ، وتمسك الفرقاء بمتاريسهم وخنادقهم .
العالم اذاً يطوي تدريجياً المرحلة الانتقالية ( الاولى ) في اليمن ، ومبادرة الخليج تصبح وسيلة ما ، لنزع فتيل ما ، في زمن ما ..
و( الماءات ) هذه ستصبح ثلاثة مجاهيل تخزنها عقول الاجيال الحالمة باوطان تخلو من الوجاهات التاريخية المتعفنة ، التي تتمنطق باحزاب ومليشيات اجبرت العالم ان يقدم لها الانتباه خوفاً من فرضية شررها المتطاير الى عنابر الزيت المجاورة ( النفط ) الأكثر أهمية في الميزان الستراتيجي . وعلى اي حال فان الثابت في المبادرة الخليجية هو أنها ثبَّتت معادلة الصراعات في صنعاء بقواعد جديدة يتدرب عليها المتصارعون ، وألحقت ضمنياً القضايا الرئيسة والأشد خطورة على مستقبل المنطقة في أسفل القائمة .. اي ان المبادرة الخليجية لم تنزع الأصبع من على الزناد بل ازاحت فوهة البندقية باتجاه آخر ولوقت آخر .
مرحلة المبادرة تصبح ، كيفما تستقر في الوعي ، جزءاً من التاريخ بمخرجات لا تتعدى تعريفات نظرية مطاطة لمرحلة انتقالية أطول ، مفخخة بكل المخاطر والنزاعات ، سمُّوها بالتاسيسية من فرط غموضها دون ان يعرف احد لماذا ستؤسس ، ولمن خلالها ستكون الوصاية ، وعلى اي عملية سياسية ... ؟ ، ومن سيكون بِنْ عُمَر القادم ، واي ملامح سيملأ بها الشاشات ... ؟ ، هل بتلك المتجمدة كأنها انحدرت من فقشة جلمود أحفوري بعينين جاحضتين خلف زجاج ( المبصرة ) ، أم وجه سياسي بشوش محايد حيوي متوازن ، يغوص في العمق ، ويستطيع ان يقدم وصاياه الموضوعية للمنظمة الأممية مسترشداً بالحقائق على الارض دون ان يعتبر مهمته مجرد فرصة لتنمية المهارات الذاتية ليبرهن خلالها بانه جدير بالثقة والتأهيل لأي تفويض مستقبلي في بقع التوترات . ومن جهة اخرى هل سيكون هناك سفراء حقيقيون للوصاية متحررين من الخفَّة المراهِقة تارة في التعامل مع قضايا حيوية كبيرة كالقضية الجنوبية ، ومن النبرات المنتفخة واللغات المتورمة تارة أخرى والتي لا تحتوي على غير الغباء كمنتَج للغطرسة والتعالي ( وهي عقلية تقف وراء الفشل المتتابع للسياسة الغربية في المنطقة ) ، حتى ان المواطن البسيط ما عاد يفرق بين لهجة الشيخ القبيلي والسفير الدبلوماسي ، وربما الاول اصبح يسخر من المتشبه به . لا احد يعلم فهي تأسيسية قادمة ، كما يصفونها ، ربما للبناء على المربَّع الصفري .
اما قضية الجنوب التي ادَّعوا بانها مفتاح الحلول فلم تتحرك من مكانها قيد نبضة تتجاوز الاعتراف الشكلي (الخبيث ) بمظلومية الجنوبيين ، بل ان الحوار حولها برهن مرة جديدة امام العالم على تمسك تلك القوى بالشق الأعمى من مِلَّة الاستملاك للأرض الجنوبية فقط ودون أي اعتبارات أخرى ، تلك الملَّة المعتَنَقة منذ ولادة دولة الوحدة في مايو ، الأكثر شؤم في تاريخ البشرية الجنوبية ، تلك التي ( سقَّطت ) مشروعاً تاريخياً لم تكن الأمة شمالها وجنوبها مؤهلة حينها لحمله ولن تكون قبل زمن طويل ينمو معه غرس قيَمٍ حضارية جديدة ويتم البراء من المشاريع السياسية المجردة والتوجه نحو تكامل في الوجود الآمن والحياة المتطورة المستقرة ، وهذا حديث آخر . لقد كان الحوار مجرد فأس يقصِّف جذعاً متخشباً أصم دون ان يمتلك القدرة على زرع بذرة حقيقية ، وكيف له ذلك والارض ربَّة اليباب ومسرح جوراسي للدناصير . ووجد المحاور الجنوبي نفسه ( ربنا كما خلقتنا) ، الف عقدة في لسانه ، عاري اليدين الا من أوزان ورقية ، ومقامات من مواويل الأشهر الموفمبيكية الستة .. جميعها لا تصمد امام حفيد نملة بيضاء في أرشيف صغير مجهول . لم يكن احد مقتنع منذ البدايات الاولى بان مؤتمر الحوار هذا هو الأرضية الحقيقية لحل القضايا الكبيرة ولم يقتنع الجنوبيون كشعب بان خطوة واحدة سيتم تحقيقها في فنادق صنعاء .
لكن ماذا بعد ؟ الجواب بالنسبة لأبناء الجنوب هو توحدهم حول قضيتهم والانتقال الى مستوى اعلى من النضال مع التمسك بالتفوق الأخلاقي دائماً . وعندما نشير الى ضرورة التوحد فلا نعني غير التوحد على هدف واحد حقيقي دون جمع للأسماء والألقاب للزينة او الاحتفالية ، لانه في المرحلة القادمة كما نراها لم تعد الاسماءَ الكبيرة مهمة عدا تلك الأمينة على مستقبل أبناء الجنوب بخطاب واضح المعالم ، مع ضرورة الإصرار على العودة الى عدن والانطلاق منها ، وان لا يتصور احد بان الجنوب سيتم تجهيزه لعودة الفرسان من شتاتهم . كما يجب ان يتعلم الجميع انه دوماً وأبدا لا حوار حقيقي دون توازن حقيقي على الارض وهذا الاخير هو الهدف الاكثر حيوية الان وليس غداً .