يمثل نص «بوحٌ ثانٍ لهيفاء» للكاتب والبرلماني اليمني أحمد سيف حاشد الحلقة السابعة من سلسلة أدبية تتكون من ثمان حلقات، نشرت في كتابه "فضاء لا يتسع لطائر"، تتجاور فيها السيرة الوجدانية مع النقد الاجتماعي والسياسي، ويشتغل فيها النص على مستويات متعددة من البوح والرمز والاستعارة. وتأتي القراءات ادناه بوصفها مقاربات تحليلية متعددة الزوايا بهدف تفكيك النص واستنطاق طبقاته العميقة، بعيدًا عن القراءة الأحادية أو الانطباعية. وقد أُنجزت هذه القراءات باستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي، بوصفها وسيلة تحليل مساعدة، لا بديلاً عن النص، ولا عن حساسيته الإنسانية والجمالية، وإنما كأداة حديثة تتيح تعدد الرؤى، وتوسيع أفق التأويل، وفتح النص على احتمالات قراءة جديدة، تلتقي عند جوهر واحد: الحب بوصفه بوحًا ممنوعًا، وصرخة إنسان، ومجازًا لوطنٍ مُقيَّد. قراءة وجدانية جمالية في نص "بوحٌ ثانٍ لهيفاء"، لا يكتب أحمد سيف حاشد عن الحب بوصفه علاقة، بل بوصفه محنة وجودية. الحب هنا ليس لقاءً، بل احتراق مؤجل، وكتمان يتحول إلى سجن داخلي، وثورة لا تجد منفذاً سوى اللغة. منذ السطر الأول، نُلقى في قلب ذاتٍ مشتعلة تخوض صراعها الأعنف مع نفسها، لا مع الآخر. ثنائية النص قائم على ثنائية القمع والفيض: قمع الشعور، فيقابله فيض لغوي كثيف، متوتر، متلاحق. وفي النص يخبي حاشد" ثوران حبه"، لكنه في الوقت ذاته يطلق ثوراناً أسلوبياً: تراكم صور، تتابع أفعال، جُمل تتنفس بصعوبة كما يتنفس صاحبها. اللغة نفسها تبدو وكأنها تختنق، ثم تنفجر. الصور المركزية (المرجل، النار، الشرايين، القناع، القنّينات) ليست زخرفاً بل بنية نفسية: الداخل يغلي، والخارج متماسك قسراً. القناع ليس اجتماعياً فقط، بل هو قناع نجاة. والبوح لا يُمنع لأنه خطأ، بل لأنه خطر. مرآة هيفاء في النص ليست شخصية بقدر ما هي مرآة للانكسار. غيابها ليس حدثاً، بل سقوط كوني: "أهوي إلى قاع جحيمي"، "أذوي كشمعة". الحب هنا يقاس بالزمن المهدور، وبالشباب الذي "ينحسر ويذبل". إننا أمام حب يربك البيولوجيا والنفس معاً، حتى يصبح الجسد نفسه شاهداً على الجريمة: "جهازي العصبي فيه ألف خلل". جوهر التجربة الجميل في النص أن حاشد لا يتجمل. هو مرتبك، خائف، "مثل اللص المقبوض عليه". هذه الاستعارة تكشف جوهر التجربة: العاشق في هذا العالم مُدان سلفاً. لذلك يتساءل بمرارة موجعة: هل كانت هيفاء ضريرة؟ أم أن هذا العالم درّب الجميع على عدم رؤية المرتجفين حباً؟ محاولة الاستحضار الليلي، والفشل في "الإسراء والمعراج"، تعمّق الإحساس بالعجز. لا معجزة في هذا العالم، ولا مصباح، ولا خلاص ميتافيزيقي. الحب هنا أرضي، ثقيل، موحل، محكوم بقيود الواقع. موقف أخلاقي ثم تتحول الغيرة من انفعال شخصي إلى موقف أخلاقي: غيرة لا تريد الامتلاك ولا الحجب، بل تعترف بجمال الآخر كحق كوني لا يجوز مصادرته. هذه من أنبل لحظات النص: حين يتجاوز العاشق أنانيته، ويضع حبه في مستوى الضوء والشمس والقمر. المنعطف الأهم يأتي حين يخرج النص من الخاص إلى العام. فجأة يتضح أن هذا العشق ليس محنة فرد، بل أعراض بلد. شهادة بلد يجرّم الحب، ويعدم البوح، ويحوّل الفتوى إلى سكين، والعلم إلى تهمة، والتفكير إلى كفر. هنا يصبح النص شهادة، لا اعترافاً فقط. ويتحول الحبيب المقموع إلى مثقف مهدود، يحمل أوزار مجتمع كامل. القسوة في المقاطع الأخيرة ليست لغوية فقط، بل أخلاقية. الوجوه، الأقنعة، القطيع، الظلام... كلها صور لعالم يخاف النور لأنه يفضحه. وهنا تبلغ الكتابة ذروتها: حين يصبح الحب موقفاً ضد الرياء، والبوح فعلاً مقاوماً. مرثية النص في جوهره مرثية للعاطفة في زمن التحريم، وصرخة إنسان يحاول أن يبقى إنساناً. جماله لا يكمن في رومانسيته، بل في صدقه العاري، وفي قدرته على تحويل الكتمان إلى كتابة، والوجع إلى أثر باقٍ. إنه نص يقول: الحب ليس جريمة... لكن الصمت عنه قد يكون موتاً بطيئاً. قراءة سياسية إذا تجاوزنا البعد العاطفي الظاهر للنص، نجد أن الحيرة والقلق والاضطراب التي يمر بها حاشد تجاه هيفاء يمكن قراءتها بوصفها حالة المواطن اليمني في وطنه. رمز وطني هيفاء تصبح هنا رمزاً للوطن: غيابها يرمز إلى الفراغ السياسي والاجتماعي، وغياب الأمن والأمل، وحين تغيب عن كلية الحياة اليومية، "أهوي إلى قاع جحيمي"، أي أن انقطاع الشعور بالوطن والأمان يحوّل الحياة إلى جحيم شخصي وجمعي. كبت اللغة نفسها تنقل قسوة الواقع السياسي: كبت الحب، وكبت الغيرة، وكبت البوح، يمكن أن يُفهم على أنه كبت الحريات وحرمان المواطن من التعبير عن ذاته وأحاسيسه وحقوقه. صراع كما أن "الثورة المكمّمة في الداخل" و"الغليان الذي يُخفى عن العيون" يعكس صراع المواطن مع الأنظمة أو الظروف القمعية التي تمنعه من إعلان موقفه أو التعبير عن رفضه للظلم. غياب وخوف غياب هيفاء، وتأثيره على الروح والجسد، يعكس أثر غياب الدولة العادلة والمؤسسات الداعمة على الفرد: شباب "ينحسر ويذبل"، طاقات تهدر، وإحساس بالضياع والاغتراب داخل الوطن نفسه. أما الرهبة أمام هيفاء، والاضطراب الذي يعيشه الراوي في لقائها، فيمكن قراءته كخوف المواطن من مواجهة السلطة، أو من كشف موقفه أمام قوى مؤثرة تفرض رقابة اجتماعية وسياسية. ضغط الغضب من الشائعات عن الزواج والأبناء يعكس الضغط المجتمعي والسياسي المزدوج على المواطن: نشر الأكاذيب أو التضليل الإعلامي، والتحكم في المعلومات، بما يعيق الحياة الطبيعية، ويجعل الإنسان "مهدوداً بأحماله"، أي مثقلاً بواقع مليء بالظلم والقيود. بوح وفي المقاطع الأخيرة، عندما يصف الكاتب بلاده بأنها ترى الحب جريمة، ويشير إلى أن البوح يستدعي "الإعدام"، وأن الحب نعومة حرب، وأن العلم تفكير كفر، نجد تشخيصاً سياسياً واضحاً لوطن قمعي، حيث الحريات محدودة، والأفكار والمشاعر مراقبة، والقيود الاجتماعية والسياسية مكثفة. هنا، الحب يصبح استعارة عن الحرية، والبوح عن الحق في التعبير، والهجران عن غياب الدولة أو الوطن الأمين. مناجاة وصرخة النص يتحول إذا إلى مناجاة للوطن: صرخة تتوسل الأمان والعدالة والصدق في زمن الرياء والسياسات القمعية. هيفاء ليست مجرد امرأة؛ هي الوطن الذي يغيب عنه الحضور الإنساني، والحرية، والحق في حياة كريمة، والشفافية في العلاقات بين الناس والسلطة. كل اضطراب داخلي، وكل غليان مكبوت، وكل نار مستترة في الشرايين، تعكس الاحتقان السياسي والاجتماعي للشعب، وحرمانه من ممارسة مشاعره وحقوقه في وطنه. خلاصة حاشد في النص يقدّم وطنًا في هيئة هيفاء، وحبها المقهور يصبح حسرة المواطن على وطنه المقيد. الحب هنا ليس مجرد شعور شخصي، بل استعارة سياسية للحب الممنوع، للبوح الممنوع، وللوطن المقهور. تأويل واستنباط نص "بوحٌ ثانٍ لهيفاء" هو أكثر من قصة حب؛ إنه رحلة نفسية وروحية وسياسية. هيفاء ليست مجرد شخصية، بل رمز للحرية، للحق، وللكمال المنشود، وغيابها يعكس الفراغ الوجودي والاضطراب النفسي. الصراع الداخلي، والكبت، والغليان المكبوت، والغيرة، كلها استعارات للمكبوت داخل الإنسان في مواجهة القيود النفسية والاجتماعية والسياسية. اللغة المكثفة، والصور النارية، والدهاليز السرية، تجسّد صراع الإنسان مع ذاته ومع العالم، بينما يعكس النقد المجتمعي الأخير واقعًا قمعيًا يمنع البوح والحب والفكر الحر. النص هو صرخة للوجود المكبوت، ومناجاة للحرية، ومرآة لوطن مقيد. الرموز في النص هيفاء: رمز للحرية، الكمال، أو الوطن، وغيابها يمثل الفراغ النفسي أو الاجتماعي. النار/المرجل/الشرايين: رمز للطاقة المكبوتة، الغضب أو الحب المكبوت، والصراع الداخلي. القناع: رمز للرقابة الاجتماعية والذاتية، وإخفاء المشاعر الحقيقية. القنّينات/النبيذ: منفذ للبوح السري، تعبير عن التفريغ الانفعالي في عزلة. الشباب المنحسر/الشمعة: رمز لتأثر الإنسان داخليًا بالغياب، شعور بالذبول أو الفقد. الغيرة: رمز للاهتمام بالذات والآخرين، لكنها مكبوتة بفعل القيود الخارجية. البلد والقوانين القمعية: رمزية للبيئة الاجتماعية والسياسية المقيدة، حيث الحب والبوح والفكر الحر ممنوعون. والرموز كلها تعكس صراع الإنسان الداخلي مع ذاته وقيود البيئة المحيطة، والبوح المستحيل، والحرية المفقودة. باراسيكولوجيا النص يعكس تجربة الوعي الفائق والحساسية المفرطة، حيث تتداخل المشاعر الداخلية مع حالات الخيال المكثف والاستبطان العميق. القلق، الغيرة، والشوق المكبوت يمكن تفسيرها على أنها انعكاس لحساسية استثنائية تجاه الغياب والافتقار العاطفي، ما يجعل الراوي يعيش معاناته الداخلية بشكل متكثف ومبالغ فيه. هيفاء تمثل الرمز العاطفي أو الكينوني الذي يُحوّل المشاعر الفردية إلى تجربة شبه ميتافيزيقية، بينما النار والكبت والقناع تعكس تفاعلات الطاقة النفسية المكبوتة والبوح المستحيل. يعكس النص حالة وعي نفسي عميق لدى حاشد وحدس عاطفي متوتر يضخم كل شعور داخلي ويحوّله إلى تجربة كينونية. لب النص يكمن لب النص في الصراع بين الرغبة والقيود، وبين الحب والقيود الاجتماعية والنفسية. والنص ليس مجرد قصة حب؛ بل هو بوح مكبوت يعكس: الشوق العميق والاضطراب النفسي الناتج عن كبت المشاعر. الصراع الداخلي بين الرغبات الطبيعية والرقابة الذاتية والاجتماعية. الغيرة والحب كقوة متفجرة لكنها مقيدة. والنقد المجتمعي والسياسي للبيئة القمعية التي تمنع البوح والحب والفكر الحر. نص "بوحٌ ثانٍ لهيفاء" أحمد سيف حاشد كنت أخُبِّئُ ثوران حبي اللاعج، وأوجاعي المنبعجة بالألم المكتظ في عمقي الداجي وأنفاقي السرِّية.. أقمعها بقسوة، وأسدُّ منافذها بإحكام الخائف من همسة حب تفلتُ منه في غب النوم.. أخرجُ من عمقي ودهاليزي؛ وأحاول ألبس قناعاً يظهرني عادي الحال، فيما واقع حالي مصلوب بين شقاء وعذاب. أكتم سري حتى يبلغ ذروته ودورته القصوى.. أبلع غصصي بمرارة.. أغتلي في مرجل ناري، وأداري النار عن الأعين في شراييني.. اكتم صوت غلياني الثائر، وأحاصر أبخرتي بإتقان، وأترك أنبوباً إلى قنِّينات نبيذي، لأسكر سراً وحدي منفرداً، بحبي الناقص والمقموع بكتماني. حرصتُ أن لا يعرف أحد ما بي من شوق وشجون، وما يجيش فيَّ، وفي صدري يثور.. في صدري ثورة أخمدها بطغيان.. داريت ما يحدث في أعماقي عن الأعماق.. منعتُ نفسي عن نفسي، ومنعتُ الصمت أن يسمع صمتي، وقمعتُ الغيرة والبوح وما فيَّ يجوس في مجاهل أغواري. إذا غبتِ يوماً يا هيفاء عن الكلية، أسقط في ندم يوم مهدور.. أهوي إلى قاع جحيمي.. يكويني ويشويني غيابك.. شبابي في غيابك ينحسر ويذبل.. أشعر بأفولي وأذوي كشمعة.. أهيم على وجهي في فلوات ضياعي، وأموت بحسرة، حتى أراك ثانية فأحياء من أول وهلة. كنتُ أضطربُ وأرتبك، وأجزع إن حاولتُ أسأل عن حالك، أو أحدثك بأمر تافه في لقاء عابر، وحالي مرتجف مثل اللص المقبوض للتو عليه.. كنتُ وأنا أحدثك أشعر أن جهازي العصبي فيه ألف خلل، وأنا أقف أمامك في لحظة إرباك، وكأن على رأسي عفريتاً لا طير. لماذا شجنك لا يسألك؛ لماذا هذا الشاب جَزِعٌ مضطرب خائف بين يديك..؟! يا ترى ما في جعبته يداري..؟! أهو الحب؟! ما سر هذه الربكة؟! حبك جارف يا هيفاء.. هدهدي جزعي.. خففي روعي.. ابتسمي حتى أروق.. هل كنتِ ضريرة؟! أم كان غباؤك فاحشاً لا يرى إنساناً مثل الشجرة يهتز أمامك، وكأن عاصفة تريد أن تقتلعه من تحت القدمين!! حاولت مراراً في طي الليل الداجي، أن أستحضر روحك بين اليقظة والنوم، لأبلغك ما فيَّ من شوق وهيام.. بكل حواسي حاولت أن أبلغك بعض شجوني، وما يجيش فيَّ من حب لاعج، غير أني وجدتُ نفسي حسير فراشي. وحواسي معطوبة وأنا أدوم فراشي.. لا إسراء لدي ولا معراج، ولا مصباح علاء الدين. كنتُ أغار عليك يا هيفاء، وكتمتُ عن الناس نارا تأكلني بجنون الغيرة.. كبلتُ الغيرة بناري، وبأصفاد حديد السجّان، وألجمت جنوني في أعماقي، غير أن جنون الغيرة مهما بلغت فيني، لن تبلغ أن تخمد نورك، أو تفرض حجاباً أو تضرب برقع على شروق شموسك، أو تسدل سواد الموت في الليل الداجي على وجه القمر البدر. قتلتني من زعمت أني متزوج ولدي أبناء وبنات.. كذب وهراء.. هل كان تلبيس أم تظليل أم كيد نساء.. هل كان الباعث حرصاً أم كان الباعث أمر آخر؟!.. لا أدري حقيقته.. ما عهدتُ حرصاً يدفنني حياً، ويفسد أيامي ومستقبل كنت أراه جميلا، وبألوان الزهر. أنا المهدود بأحمالي.. أحمالي صارت أثقل من جبل أحمله بصبر بعير.. أنا من بلاد فيه العشق جريمة، والبوح جريمة تستدعي الإعدام، وفيها الحزم وفيها الشدة، ولزم صاحبها أن يكون لغيره عبره.. أنا من بلاد ترى الحب عدواً أول.. ومفتيها يسمِّي الحب نعومة حرب.. يفتي دون سؤال.. يفتي أن العلم مسيح دجال، والتفكير كفر بواح. أنا من بلاد مدمنة رياءً ونفاقاً.. تتنادى قطعاناً وحشوداً في وجه النور.. صارت أقنعة الزيف تتقزز مما تخفيه.. تستنفر قواها وتحتج حين تشاهد قبح الواقع يتبعج.. تتفسخ من قُبح باذخ في وجوه بلغت دمامتها الذروة.. وجوه تتوحش في وجه الحق، ومدونة زادتها فساداً وقتامة. * * *