شرط أساسي لإحداث حركة تغيير في أي مجتمع هو نضج "الكتلة الحرجة" فيه، بعض علماء الاجتماع يحددها ب2% من عدد السكان، هذه هي التي تقود التغيير والنهوض؛ شرط أن تحظى بثقة المجتمع وتمتلك الفاعلية والتأثير فيه؛ إلى جانب شروط أخرى موضوعية ليس مقامها هنا. جزء أساسي من هذه الكتلة الحرجة الإعلاميون؛ وجزء آخر منها المصلحون الاجتماعيون؛ وهناك فئة في المجتمع تمارس الدورين معاً وأزيَد؛ إنهم الخطباء.
الهجوم على خطيب الجمعة أصبح من العادات الثقافية والإعلامية للكثيرين! وهنا أتساءل: ما الذي يمنع أن يكون للاتجاهات الثقافية والفكرية المختلفة مساجدها؟! بالتأكيد، إن لكل اتجاه رجال أعمال متحمسين له بإمكانهم بناء مساجد واستدعاء رموزه لمخاطبة المجتمع عبر منبر الجمعة؛ لإحداث التغيير الثقافي والفكري الذي يأملون؛ وطبعاُ أنا أتحدث هنا عن اتجاهات ثقافية لا سياسية؛ ما الذي يحول بين من يتهمون الخطاب الديني بمختلف مدارسه بتشويه قيم الدين وتأخير حركة المجتمع بأدوات منها خطبة الجمعة وبين إقامة الخطبة التي يريدون؟ ما النص القانوني الذي يمنع غير الإسلاميين من المشاركة في خطبة الجمعة؛ أما النص الديني فهو مُشاع للجميع.
بصراحة؛ أتمنى أن أحضر خطبة جمعة للدكتور حمود العودي كما أحضر لمحمد سيف العديني تماماً.
تصور جمالية أن تحضر خطبة أسبوعية للدكتور ياسين سعيد نعمان؛ أعتقد أن أكبر مساجد العاصمة سيمتلئ من الساعات الصباحية الأولى! نريد أن نرى المثقف عبد الملك المخلافي يخاطب رواد مسجده أسبوعياً؛ عبد العزيز المقالح؛ فؤاد الصلاحي؛ وحتى بعض المفكرين والمثقفين المحسوبين على الفكر الاسلامي؛ عصام القيسي، مروان الغفوري، مجيب الحميدي، إلخ، هل النص الديني حكر على فئة دون فئة؛ أليست الخطبة هي عمل إعلامي أولاً وأخيراً؟ شخصياً أتمنى استضافة سمير اليوسفي وعبد الحكيم هلال وزيد الغابري وفؤاد البنا وعبد الغني الماوري وعبد الله الذيفاني على منبر مسجد العيسائي بتعز.
كثير ممن يتهمون خطيب الجمعة بالتقليدية ويصبون جام غضبهم عليه؛ يمارسون الدور نفسه تماماً وربما فاقوه تقليديةً وجموداً؛ لقد اختاروا الفعل الأسهل والأكثر سلبية؛ وصنعوا بينهم والمجتمع الذي يعيشون فيه سداً وهمياً منعهم من أداء خطبة الجمعة رغم اقتدارهم؛ وأحياناً منعهم حتى من حضورها رغم تأكيدهم أنها من أكثر الفعاليات تشكيلاً لوعي الناس ورغم اقتناعهم أنها ليست حكراً على فئة بعينها؛ فديننا لا وصاية أو مزية فيه لأحد.
اعتقد أن المثقف العضوي الذي يهمه مجتمعه لن يتوانى – أو على الأقل لن يمانع - عن استثمار هذا الصرح الإعلامي الأسبوعي المؤثر في توعية محيطه ومخاطبة الجماهير وجهاً لوجه.
بعيداً عن هذه الأفكار التي قد يراها البعض خيالية وشاطحة! لكن لا بأس فإحداث التغيير ومراودة التطوير لا تتم دون خيال؛ اعتبروها دعوة لإشاعة الخطاب الديني (فرع خطبة الجمعة).
أو دعوة لنقاد هذا الخطاب –وأنا أحدهم – إلى محاولة إعطاء نموذج حي ملموس للخطاب الذي يأملون تعميمه؛ أو اعتبروها دعوة إلى المشاركة العملية في تصحيح هذا الخطاب، أو حتى مجرد دعوة ل"التفكير في المفقود"! أقول: بعيداً عن ذلك "المفقود" والتفاتاً لحال خطيبنا "الحاصل"! الذي لا نمتلك في الوقت الراهن غيره – وارحبوا عالحاصل – هذا الخطيب رغم أن الجميع يتفق على أهمية دوره إلا أنه تُرك لوحده في العراء؛ فلا أحد مهتم بتأهيله ورفع مستواه؛ لا منظمات مجتمع مدني –ربما باستثناء القليل مثل منظمة NODS برئاسة البرلماني شوقي القاضي – و لا أحزاب ولا دولة، وكأن عقول الناس لا تهم أحداً في هذه البلد.
إذا كان الاستثمار في الإنسان وتطويره وتأهيله هو أجدى أنواع الاستثمارات؛ فكيف إذا كان هذا الإنسان هو خطيب الجمعة؟ فالملاحَظ – كمثال فقط - أن التاجر في مجتمعاتنا قد يهتم ببناء مسجد والإنفاق على زخرفته وتجميل ويرى ذلك ترفاً لا داعي له.
والحقيقة أن معظم خطبائنا يحتاجون لتأهيل "فني وثقافي" معاً، أقصد بالتأهيل الفني عنصرين أساسيين: أولهما: فن الإلقاء والتأثير على الجماهير. هذا الفن الذي صار يُدرّس في الجامعات الغربية كعلم له أصوله وقوانينه؛ من حسن اختيار الموضوع وتلبية حاجة المستمعين إلى مهارات البحث والإعداد وتبويب العناصر وترتيبها منطقياً إلى فنون جذب المستمعين ولغة الجسد وتأثيرات نبرات الصوت وطبقاته والوقفات أثناء الكلام وحسن اختيار الشواهد وعرضها؛ وصفات المقدمة المؤثرة، وكيف تكون الخاتمة ...الخ. وهي مجموعة مهارات وأدوات لا غنى للخطيب عنها.
أما ثاني عناصر التأهيل الفني فهو التأهيل التكنولوجي – إن صح التعبير – استخدام الكمبيوتر وإجادة النت وطرق البحث في الشبكة العنكبوتية ولا يخفى تأثير ذلك في ثراء الخطبة؛ ثم إمكانية أن يستخدم الخطيب ال"آيباد" بدل الورقة؛ وجهاز العرض "الداتاشو" في تقديمه للخطبة. (وللحديث بقية).