في ظل التسطيح وغياب العقل يندر أن تجد من يبحث عن الصورة كاملة، كل ما هنالك اختزال وتبسيط لكل شيء، إما 100بالمائة وإما صفر، إن لم تكن معي فأنت ضدي. إن رضيتُ عنك فأنت "مقدس"، وإن سخطتُ عليك فأنت "مدنس"، إن كتبتَ ما يرضيني وقُتلتَ بسبب ذلك فأنت عندي "شهيد"، وإن كتبتَ ما يتصادم مع آرائي فأنت "مرتد" وتستحق القتل، وأكثر. إن أعجبني موقفك فأنت "ملاك كريم". وتتحول – إن لم يعجبني - إلى "شيطان رجيم". هكذا دفعة واحدة، بلا إنصاف ولا أنصاف، إما أبيض وإما أسود، ويضيع اللون الرمادي وبقية الألوان أيضاً. . "قتل الإنسان ما أكفره"!. كتبَ منتقداً موقف بعض اليساريين الذين انخرطوا مع الحركة الحوثية متعجباً من قبولهم بالفكر الحوثي القائم على التمييز السلالي والطبقي بين الناس مع أن الفكر اليساري يقوم أصلاً على المساواة بين الطبقات بل التسوية بينها، فاستعدى بذلك كثيراً من اليساريين.. وحسبوه على التيار الإسلامي.
ولما شنّ حرباً شعواء على تجربة الحركة الإسلامية السودانية – فرع البشير!- في الحكم محملاً إياها المسؤولية الأولى عن انفصال جنوب السودان وأوضاع دارفور وواصفاً عمر البشير بالحاكم العسكري الديكتاتوري، خسر بذلك كثيراً من الإسلاميين الذين اعتبروه ليبرالياً وقاطعوا أعماله.
وقف مع حزب الله في حربه مع اسرائيل عام 2006 وشجب فتوى مفتي المملكة السعودية بحرمة الدعاء لحزب الله بالنصر، وندد بالحروب الستة على صعدة فاتُهم بالتشيع والتحوث، ولما وقف ضد حزب الله في حربه مع النظام السوري، وضد التمدد المسلح للحوثيين في المحافظات الشمالية اعتبره البعض أداة بيد الإسلاميين، الإصلاح تحديداً.
إن عارضتَ سياسة الإخوان أثناء حكم مرسي فأنت بالنسبة لبعضهم عميل تحركك الأيدي الأجنبية والقوى الخارجية، أو في أحسن أحوالك أنت ساذج لا تفقه في السياسة وألاعيبها شيئاً، وإن عارضتَ انقلاب 30 يوليو وما تلاه فأنت بالنسبة للانقلابيين إخواني، أو في أحسن أحوالك من خلاياهم النائمة حتى لو كنت البرادعي نفسه أو نيفين مَلَك المسيحية!. إن انتقدت الإخوان في استدعائهم للدين وتمترسهم به في كثير من مواقفهم فأنت "علماني"، وإن انتقدت الفتوى سئية الصيت (الفتوى الجريمة) لمفتي مصر السابق علي جمعة باعتبار قتل المتظاهرين ثواباً وقربى إلى الله فأنت إخواني. يعني : يا إخواني يا علماني، وأنت اختار!. أتذكر بكثير من الأسى الهجمة الشرسة التي شنها بعض رموز الإسلاميين -ومازالوا- على كتاب قاسم أمين "تحرير المرأة"، وبسبب ذلك أردتُ دائماً أن اقرأ الكتاب لأعرف أخطاءه وسبب تأثيره والهجوم عليه؛ عثرت عليه أخيراً فإذا هو يطالب بالتعليم الابتدائي للفتاة المصرية، ويؤصّل للحجاب الشرعي مطالباً أن نتجاوز النقاب المختلف فيه شرعاً ونكتفي بالمتفق عليه وهو كشف الوجه والكفين، ويقتبس من كتب الإمام محمد عبده صفحات كاملة، حتى اُتهم الإمام بالمشاركة في تأليف الكتاب!؛ وحقق - مؤخراً-الأعمال الكاملة لقاسم أمين المفكر الإسلامي المعروف الدكتور محمد عمارة. وقل مثل ذلك عن رواية "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ التي كفره البعض بسببها إذا بالرواية تصدر بتقديم جميل أشبه بالاعتذار بقلم نائب رئيس اتحاد علماء المسلمين المفكر والقانوني الشهير محمد سليم العوا. فلا في الرواية كفر ولا تجاوز ولا هم يحزنون، فلغة الأدباء تتسع لما لا تتسع له لغة الفقهاء.
- يُقال: للعدو الهارب ابنِ جسراً، ونحن للأسف – بمختلف اتجاهاتنا- للصديق المحتمل نقيم آلاف الحواجز ونتفنن في اختراع أسباب العداوات من العدم.
النقد غير وارد في قاموسنا، والاعتراف بالخطأ جريمة حاشانا أن نقترفها، والتعصب الأعمى والهجوم الشرس على المخالف هما وسيلتنا الساذجة للدفاع عن أفكارنا وأحزابنا ومواقفنا العامة والشخصية أيضاً. والتخندق وراء تصنيف الآخرين وإصدار الأحكام الجاهزة -والطائشة أيضاً – عليهم كاد يكون عادة من عاداتنا أو حاسة سادسة بعد حواسنا الخمس الطبيعية.
وغفلنا القانون الاجتماعي القائل بأن إشاعة جو النقد الذاتي وثقافة الانفتاح على الآخر أياً كان هذا الآخر وأياً كان مستوى ومجال اختلافه معنا، هما عاملان رئيسان لرقي الأمم والجماعات ونهوضها.