رغم كثرة القوانين والأنظمة في بلادنا، فإن اليمنيين لا يحترمون القانون ولا يلتزمون بالنظام، بل يحاولون دائما تجاوز القوانين والالتفاف على الأنظمة ويستعينون لذلك بالأقارب والمعارف (واسطة)، أو بالرشوة، وأحيانا بالقوة، ابتداء من الوقوف في طوابير إلى الحصول على وظيفة مروراً بقانون المرور وأنظمة السير. ومع أن الجميع يتحدثون عن النظام والقانون ويطالبون باحترام النظام والتزام القانون إلا أن الحال كما يشتكي منه الجميع أيضا فوضى لا نظير لها في بلاد الله. فلماذا لا يحترم اليمنيون النظام والقانون؟! سيقول قائل إن الفساد ظاهرة عالمية، ولكنه صار في الحقيقة خصوصية يمنية بامتياز مع سبق الإصرار والترصد. فقد عمَّ وطمَّ، واستشرى وانتشر، حتى لا تجد مؤسسة أو جهازاً أو قطاعاً رسمياً أو شعبياً إلا وقد صار الفساد هو سمته ونظامه وطريقته ومنهجه. بل لقد صار الفساد قانوناً في حد ذاته! ومع أن قانون الفساد غير مكتوب، إلا أن الناس تحفظه وتعيده وتكرره وتزيده لنفسها وعلى مسامع كل صاحب حق أو معاملة أو "مشارعة". ومع أن الجميع يعيشونه ويتعيشون منه ويتعايشون معه، إلا أن الجميع أيضا يلعنونه ويسبونه ويشتكون منه!
ومع أنه من الطبيعي أن يشتكي المواطن العادي من الفساد، إلا أنه من الغريب والمريب أن يشتكي المسئولون على اختلاف درجات مسئوليتهم. وإذا استمعنا إلى خطابات الرئيس في السنوات الأخيرة نجده يلبس ثياب الواعظين، ويشتكي من الفساد ويسبه ويلعنه، وينذر الفاسدين بالويل والثبور وعظائم الأمور، بل ويحذرهم من عذاب النار! وإذا زرت أي مسئول وفتحت معه موضوع الفساد، ستجد أن المسئول يبكي ويتألم حتى يثير عطفك وشفقتك! ويذكر كاتب هذه السطور أنه كان في زيارة صحفية لأحد المسئولين فوجده يتحدث في الهاتف وهو يردد: "حاضر يافندم"، "تمام يافندم"، وبعض كلمات أخرى. وحين انتهى التفت إلي وهو يكاد يبكي وقال - وهو الذي كان يشغل منصباً رفيعا- إن عمله لا يتجاوز تنفيذ التوجيهات والأوامر العليا المخالفة للنظام والقانون، وما عليه إلا أن يسمع ويطيع ويوقع وينفذ وإلا طار من كرسيه! وفي زيارة لمسئول آخر – كان يبكي هو الآخر- فلما سألته: إذا كان المسئولون جميعا يبكون ويشتكون من الفساد، فمن هو المسئول عن هذا الفساد؟ رفع رأسه ،وقد كان مطرقاً، ونظر إلى صورة معلقة فوق مكتبه، ثم خفض رأسه احتراماً، ومد سبابته اليمني وأشار إلى الصورة!
وقد قال أحد كبار الاقتصاديين اليمنيين أنه من المستحيل وجود تنمية حقيقية في "مجتمع صار الفساد فيه تعاون على البر والتقوى" على حد تعبيره! وقال إن كل واحد وكل طرف في المجتمع اليمني صار يجد لنفسه عذراً في التفلت من القوانين والأنظمة. وأنه كما يستند الأقوياء إلى قوتهم والأثرياء إلى ثروتهم والوجهاء إلى وجاهتهم، فإن الفقراء والضعفاء يستندون إلى فقرهم وضعفهم. فإما أن يبرروا لأنفسهم التهرب من القوانين والأنظمة بحجة أنها لن تطبق إلا عليهم لضعفهم وقلة حيلتهم، وإما أن يجدوا تعاونا في ذلك التهرب من الأقوياء كنوع من التعاطف وعمل الخير والبر والتقوى!
والحق أن المرء ليتحير في فهم كيف أن فاسداً واحداً لم يتم تقديمه للمحاكمة طيلة العقود الثلاثة الماضية. وقد حضر كاتب هذه السطور المؤتمر الصحفي الذي انعقد في دار الرئاسة في أعقاب حرب 1994م وسأل الرئيس "صالح" إن كان على استعداد أن يضحي بواحد من الفاسدين المفسدين، فكان رده هو الضحك! ومع أن دلالة الضحك في الإجابة على ذلك السؤال لم تكن واضحة، حيث يمكن اعتبارها تهرباً من الإجابة، وربما كانت محاولة للإيحاء بأنه ستكون هناك أخبار طيبة بهذا الشأن مما جعل الرئيس يتحفظ في الإجابة على السؤال. إلا أنه -ومع مرور السنين- تبين أن الفساد صار وسيلة من وسائل الحكم وتثبيت أركان الدولة!
وسياسة الإرضاء والتغاضي التي اتبعها النظام مع المفسدين، سواء كانوا من المسئولين أو المتنفذين، صارت معروفة للقاصي والداني. حيث يتم إطلاق يد هؤلاء فيما هو تحت أيديهم من أعمال الدولة أو من المديريات والمحافظات والمواطنين مقابل كسب ولائهم وضمان طاعتهم. ولقد امتدت هذه السياسة حتى شملت في فترة من الفترات خاطفي السياح الأجانب، فصار كل من يريد أن يحصل على "زايد ناقص" يخطف سائحاً أو أكثر فيتم التفاهم معه وإرضاءه، وبذلك صار "الخطف السياحي" علامة مسجلة لليمن بفضل هذه السياسة "الحكيمة".
وبهذه الصورة فإن الفساد يعتبر واحداً من آليات ديمومة النظام القائم، فمن خلاله يتم توزيع كعكة السلطة والثروة على دائرة واسعة من المسئولين والمتنفذين مع اكتفائه هو والمقربين منه بالمركز في هذه الدائرة ثم إطلاق أيدي هؤلاء المسئولين والمتنفذين للعبث والفساد والإفساد. وهو بعد ذلك لايسألهم ماذا يفعلون، كما أنهم لا يسألونه ماذا يفعل أو ماذا يأمر. وحتى تدوم منافعهم ومفاسدهم فهم يسبحون بحمد ولي نعمتهم ويلهثون وراء التوريث بكل إخلاص!
ولاشك أن الأزمات السياسية والاقتصادية والأمنية التي تعيشها بلادنا هي حصيلة تراكمية للفساد والفوضى طيلة العقود الثلاثة الماضية. وصدق الله العظيم القائل: "إن الله لا يصلح عمل المفسدين".