لم أعد أتذكر أين قرأت انتقاداً لأحدهم لاتخاذ "النسر" شعاراً وطنياً وقومياً في أعلام عدد من الدول العربية، وفي أوراقهم وأختامهم الرسمية! وأيضاً غابت عن ذهني الحيثيات التي برّر بها صاحب الانتقاد كلامه؛ حتى بدأت الإجراءات العملية للانتخابات المصرية الجديدة (بصرف النظر عن كونها مهزلة أو مسرحية يمثل فيها شخصان؛ الأول دور البطل، والآخر دور السنيد، وفي رواية: دور الكومبارس!)، واعترضت حملة المرشح الناصري الكومبارس على عدم وجود صورة طائر "النسر" بين الرموز الانتخابية المطروحة لاختيارها من قبل المرشحين، وأصرت على ضرورة إضافته بوصفه الرمز المفضل والمحبب للمرشح الناصري ومؤيديه! ولاعتبارات الحرص على وجوده في مسرحية الانتخابات تمت الموافقة على الإضافة، واختارها هو لتصبح رمزه الانتخابي في مسرحية "أم المهازل"! المهم؛ أعادت هذه الحيثيات لذاكرتي الانتقادات القديمة حول عدم صلاحية اختيار "النسر" رمزاً لأمة ناهضة تتلمس سبل النهوض والمجد والقوة؛ فبحثت في الموسوعة الإلكترونية الخاصة بالطيور عن أي معلومات عن النسر فوجدت السر أو الحقيقة التي غابت عن الطائر الذي طالما اعتز به عرب كثيرون، وقدموه للذهنية الشعبية بأنه رمز للعظمة، والشرف، والقوة! وكم رسمه التلاميذ في المدارس على كراساتهم والجدران افتخاراً به وبما يمثله من معانٍ.. وكل ما في الأمر أن الذين قرروا اختيار النسر أخطأوا في ترجمة الاسم عن اللغة الإنجليزية، وخلطوا بينه وبين طائر "العُقاب".. وما يزال الخطأ.. مستمراً!
**** ورغم التشابه الكبير في المواصفات الجسمية في الضخامة والقوة بين طائر "العُقاب" وطائر "النسر"؛ باستثناء صغر مخالب الثاني وعدم وجود ريش كثيف حول عنقه ورأسه لسبب وضيع سنعرفه لاحقاً؛ إلا أن "العُقاب" وليس"النسر" هو الذي يمثل حقاً معاني القوة، والشجاعة والشرف عند العرب الأقدمين والأوروبيين على حد سواء.. وهو ملك الطيور دون منازع، وسيد الجو، ورمز الشجاعة والقوة، وكان للرسول (صلى الله عليه وسلم) راية في الحرب اسمها "العُقاب"، واستخدم العرب اسمه في تسمية أبنائهم، وجعله القائد الإسلامي العظيم صلاح الدين الأيوبي شعاراً له، وفي العصر الحديث اتخذته العديد من الدول الأوروبية والأسيوية واللاتينية شعاراً لها من ألمانيا إلى النمسا إلى المكسيك إلى أندونيسيا، وأشهر من اتخذته شعاراً: الحكومة الأمريكية وإداراتها المحلية التي وضعته على كثير من أوراقها الرسمية؛ بالإضافة إلى بعض الدول العربية وأشهرها مصر التي بدأت في استخدامه منتصف الخمسينيات بوضعه في قلب العلم المصري بجوار النجمة والهلال، قبل أن يتم حذفه زمن الوحدة المصرية السورية ووضع نجمتين بدلاً منه، وإن كان استمر استخدامه شعاراً في الأوراق الرسمية حتى عاد مجدداً إلى العلم المصري عام 1971.
الخطأ الذي وقع عربياً فقط؛ أن الذين اقتبسوا الرمز؛ تأثراً كما قيل في منتصف الخمسينيات بالتقييم الأمريكي له بأنه رمز للحرية والانطلاق والعلو؛ خلطوا بين العقُاب والنسر، وظنوا أن صورة الطائر الأمريكي الأصلع في الأوراق الرسمية المعروف باسم "eagle" هي "النسر" المعروف باسم "vulture" وليس "العقُاب" كما هو في الحقيقة.. وتكرس الخطأ، وشاع اسم النسر رمزاً للقوة والشرف والشجاعة؛ رغم أنه في الحقيقة ليس كذلك؛ بل هو لغوياً من الحيوانات الوضيعة لا يقتات إلا على الجيف من الزواحف والحيوانات كالفئران والأرانب، ومن صفاته – عند العرب والإنجليز- أنه طائر جبان فلا يقدم على التهام فريسته إلا إن تأكد من موتها! بينما العقُاب يفترس حتى الذئاب والثعالب الحية، ولا يأكل إلا من صيد مخالبه طازجاً، ويعفّ عن الجيف ولو ظل جائعاً أياماً! ولأن النسر لا يأكل إلا الجيف المتروكة، ولا يقدم على فريسته إلا بعد أن يتأكد من موتها؛ فهو لا يحتاج إلى مخالب حادة وطويلة يقتل بها صيده الذي يلتهمه ميتاً جيفة لا يقدر على الدفاع عن نفسه، وكذلك لا يوجد في رأسه وحول عنقه ريش كثيف؛ ليسهل عليه المحافظة على نظافة الرأس والعنق عندما يدس منقاره داخل جسد الجيفة ليأكل منها فلا يتلوث من بقايا الدم والأوساخ! ومن هنا جاء الخلط بينه وبين العقاب الأمريكي الأصلع! وسبحان الله الخالق الحكيم: خلق فقدّر فهدى فأعطى كل مخلوق ما يحتاجه متوافقاً مع ما يسّره له!
**** يفترض في الرموز أن تكون معبرة عن معنى تاريخي مرتبط بشيء في الذهنية الشعبية؛ فالأتراك مثلاً اتخذوا "الذئب" شعاراً لهم لأن أساطيرهم القديمة تقول إن ذئباً أنقذ القبيلة يوماً ما من الموت! والفرنسيون يتخذون الديك رمزاً لهم.. وإحدى الولاياتالامريكية تتخذ "البصل" شعاراً لها.. والحزب الجمهوري في أمريكا يتخذ "الحمار" رمزاً له.. ولكل رمز هنا له معنى نفسي محترم عند أصحابه، وإن كان له معنى غير طيب لدى الآخرين.. وتخيلوا مثلاً لو أن حزباً عربياً اختار رمزاً له مثل الحمار فسيكون الاختيار كارثة إعلامية عليه؛ رغم أن هذا المخلوق وثيق الصلة بحياة ملايين العرب الذين يستفيدون منه في حياتهم اليومية كما يستفيدون من السيارة والطائرة.. ومثله "الكلب" أو "المعزة" فكلها سوف تكون مصدراً للتنكيت؛ كما حدث مع مرشح مؤتمري شارك مستقلاً في إحدى دوائر العاصمة، واختار له رمزاً خاصاً هو السفينة، وفاز في النهاية، وكانت المفارقة أن دائرته كانت إحدى أشهر المناطق الغارقة في.. مياه المجاري! وأذكر أن مرشحاً في عدن في انتخابات محلية احتار في اختيار رمزه بعد أن رفضت كل مقترحاته بحجة أن غيره قد اختارها قبله، فهداه تكفيره إلى رمز "الحمار" متأكداً أن أحداً لن يجرؤ عل اختياره، لكنه فوجيء بغضبة حصانية ضده رمته في السجن؛ فقد اعتقدت جماعة "الخيل" أن الرجل يعرّض برمز حزب الزعيم الحاكم وحده لا شريك له! في مصر اختار مرشحا الانتخابات الرئاسية السنوية (على أساس أن مصر سوف تكون مسرحاً سنوياً أو كل سنتين للاستفتاء على دستور جديد، أو انتخاب رئيس جديد، أو برلمان جديد وفقاً لمزاج العسكر والنخبة!) رمزين يظنان أنهما معبران عن معانٍ جميلة ووطنية؛ فالمرشح الأصلي وحاكم مصر الفعلي اختار "النجمة" بوصفها تضيء في السماء المظلمة، وترشد إلى الطريق الصحيح أثناء التيه، والمرشح الكومبارس اختار "النسر" تماشياً مع الغلطة التاريخية التي وقع فيها العرب منذ الخمسينيات كما سلف في أنه يمثل الشهامة والقوة والمجد! ولأن مبررات اختيار الرموز الانتخابية لدى السياسيين العرب تتكىء على تفسيرات ورمزيات مبالغ فيها في العادة؛ وكأنها تكفي لمنحهم المشروعية والقبول عند الجماهير، وتسهل عملية فوزهم في الانتخابات فمن الطبيعي أن تعود عليهم سلباً! فلا المشير السيسي يمثل النجمة التي ستضيء للمصريين حياتهم، وهو الذي اكتسب لقب السفاح عن جدارة، وحكم بالظلام على حياة ملايين المصريين.. ولا صباحي يصلح أن يكون النسر إلا إذا كان يقصد أن يكون مثله في الطبائع؛ فلا يقدم على الفريسة إلا وهي.. جيفة! وفي بلادنا عندما اختار المؤتمر الشعبي العام رمز الخيل شعاراً له استعانوا بالحديث الشريف "الخيل معقود بنواصيها الخير"، ومن نافلة القول إن المؤتمر لم يأخذ من الخيل إلا الرفسة العنيفة التي يتمتع بها؛ فقد أضاع أو رفس خيراً كثيراً منذ منتصف التسعينيات بعدما تفرد بحكم اليمن دون معارضة حقيقية، ودون أي تهديد داخلي يعوق الخيول المؤتمرية أن تجري في مضمار بناء الدولة بناءً صحيحاً قائماً على معايير الحق والقانون والعدل؛ حتى وصلنا إلى حافة الانفصال، وتدهور الحياة العامة، ولم يعد هناك سبيل إلا الخروج إلى الشوارع والمطالبة بإسقاط النظام كله.. بالإضافة إلى إعادة إحياء مضامين النظام الملكي من خلال مشروع توريث الابن والحفيد باسم الجمهورية، ومن خلال تهيئة الأرض لمشروع الحوثيين المشابه في إحياء الفكرة الإمامية في السلطة!