لو منحت القوى السياسية المصرية والعربية، المؤيدة للانقلاب العسكري على المسار الديمقراطي، أقصى قدر من حسن الظن في نياتها فلن يكون حظهم في السذاجة أقل من نصيب بطلة حكاية التي قيل في تفاصيلها: إن امرأة صرخت في مكان عام (مسرح أو سينما) طالبة النجدة لتعرضها للسرقة، وفي التحقيق عرف أن النقود كانت موضوعة بحرص في مكان حريز في ثيابها الداخلية السفلية، ولما لامها المحقق وحملها المسؤولية، إذ كيف أنها لم تنتبه لأصابع اللص وهي تتسلل كل تلك المسافة تحت ثيابها حتى تصل إلى موضع النقود فتسرقها؟ بررت المرأة سكوتها قائلة: [ مظلومة يا بيه.. أصلي كنت فاكرة أن قصده.. شريف!]. قطعاً لا تستحق كل القوى المشار إليها هذا الظن الحسن؛ فمنها من كانت تعرف الحقيقة، وكانت تعرف أن الأصابع المتسللة قصدها وسخ وقذر لكنها سكتت إن لم نقل إنها أسهمت في تسهيل الأمور: إغواء، وتذليلاً للصعوبات لتحرض الجيش المصري على العودة للاستيلاء على السلطة من جديد، وإجهاض أول ممارسة ديمقراطية حقيقية في "أم الدنيا" منذ عرفت مصر البرلمانات والانتخابات والأحزاب قبل قرابة مائة عام!
[2] خلال الأيام القليلة القادمة سوف يسدل الستار على عملية "كان قصده شريف!"، وتعود مصر لبيت الطاعة العسكري رسمياً، وبختم النسر الميري، وبديمقراطية هذه المرة! وستبدأ استحقاقات الظن الحسن الشريف للقوى - بدأت الآن - تصرخ مرعوبة من عودة نظام مبارك والفاسدين! ومن هؤلاء بعض الناصريين، والاشتراكيين الثوريين، والليبراليين، وشباب الثورة الذين انهاروا أمام انتصار الإسلاميين في خمسة انتخابات نزيهة منحهم المصريون فيها أغلبية واضحة لحكم مصر، وبدلاً من أن يثبتوا أنهم على مستوى تنظيراتهم الكلامية الطويلة عن الديمقراطية والاحتكام إلى الصندوق، والقبول بالآخر وبالإرادة الشعبية، راحوا يهرولون إلى أحضان العسكر ودول الخليج التي طالما وصفوها بأنها رجعية وعميلة للأمريكان، ويتآمرون معهم لإسقاط السلطة المنتخبة؛ مرّة بدعوى أنها فشلت خلال مائة يوم من حكمها في تحقيق وعودها في تحسين مستوى المعيشة والخدمات العامة، وتحقيق الأمن والاستقرار، ومرة بدعوى الأخونة وأسلمة الدولة، ومرّة بدعوى الديكتاتورية والتضييق على الحريات العامة والخاصة، وانتهاك حقوق الإنسان!
ولأن الجزاء من جنس العمل؛ فالمكابرة فقط هي التي تمنع أمثال هذه الفئات من الاعتراف أنها كانت في سذاجة السيدة (كان قصده شريف)! فبعد 11 شهراً من الانقلاب العسكري ما تزال مصر تعيش تدهوراً معيشياً واقتصاديا مخجلاً، ولولا الدعم الخليجي الهائل لانهارت "أم الدنيا" على ركبتيها! ولا يوجد أي أمل في الأفق القريب عن انفراجة ما. ومرشح عسكر يرفض تحديد أي مواعيد أو وعود لحل المشكلات بحجة (مش أنتم اللي دعوتموني؟).. والمرشح الناصري الكومبارس يحدد في حوار مع صحيفة "الوطن" الجزائرية فترة من 3-4 سنوات فقط لكي تظهر نتائج ملموسة لبرنامجه بعد فوزه، خاصة بما يتعلق بمكافحة الفقر وعمل الشباب، وهم الذين تآمروا وحرضوا على الفوضى بعد 100 يوم فقط!
وها هي خدمة الكهرباء التي كان ضعفها أحد مبررات التحريض على الرئيس المنتخب ما تزال في حالة تدهور كبير، وعلى بعض شاشات القنوات المصرية رموز ملوّنة تدل على مستوى الأمان أو الخطورة التي يبلغها الاستهلاك العام للكهرباء في لحظة ما تحذيراً للناس! والمذيعون الذين كابروا وهرجوا وشتموا أيام مرسي يقودون الآن حملات وعظ لمطالبة الجماهير بالصبر على الدولة، والإسهام في مواجهة الكارثة بتخفيف الاستهلاك، وإطفاء أجهزة التكييف والغسالات.. وإلا تعرضوا لحملات مداهمة!
أما دعاوى أخونة الدولة فقد حل محلها: عسكرة الدولة، وإعادة دولة مبارك، ورموز حكمه وإعلامه الذين يتصدّرون الآن المشهد الانتخابي في حملة مرشح العسكر! والذين أحنوا ظهورهم ليركبها العسكر يشتكون الآن من أن الإعلام المصري يعيد الاعتبار لرموز مبارك؛ أو كما قالوا "الإعلام يغتالنا بكل معنى الكلمة، وكل برامجه يديرها إعلاميو مبارك!". ووصف عمرو بدر، مسؤول اللجنة الإعلامية لحملة حمدين صباحي المرشح في انتخابات الرئاسة؛ الإعلام المصري بإعلام دولة مبارك الذي يدافع عن الفساد والاستبداد الذي كانت تعيش فيه مصر قبل ثورة 25 يناير!
[3] وبدلاً من الشكوى من الأخونة والدولة الدينية فها هم اليوم يشكون من العسكرة مولولين: [دور الجيش حمايتنا وليس حكمنا!- دخول الجيش السياسة خسارة على الجيش نفسه وعلى الجميع!- وعلى الجيش أن يحمي المسار الديمقراطي وحدود الوطن، ويبتعد عن.. السياسة!].
أما د. حسن أبو طالب الخبير الاستراتيجي في مركز الاهرام فقد أفتى بتنسف دعاوى الأخونة من الأساس في معرض نصحه للمرشحين بحسن اختيار فريقهما الانتخابي؛ إذ أفتى بأنه من الطبيعي في جميع الأحوال أن يكون أعضاء الحملة الانتخابية لأي مُرشح رئاسي أن يستعين بهم المرشح في فريقه الرئاسي في حال فوزه بالانتخابات بتوليهم مناصب ومهام في المؤسسة الرئاسية لتحقيق البرنامج الانتخابي الذى شاركوا في وضعه وصياغته! ومن المؤكد توليهم بعض المناصب التنفيذية، ومن الممكن توليهم بعض الحقائب الوزارية أيضاً!
ومع أن الانقلاب العسكري ولد محاطاً بمباركة الأزهر والكنيسة وتأييدهما؛ فالمرشح الناصري تذكر في الأخير فتوى السادات ألاّ دين في السياسة ولا سياسة في الدِّين، مؤكدا [إن مؤسسة الأزهر الشريف والكنيسة المصرية مؤسستان يفترض ابتعادهما عن السياسة، وأن الكنيسة ليست أداة توجيه لصالح مرشح رئاسي بعينه دون الآخر]، مطالبًا بابتعادهما عن العملية الانتخابية.
ولأن المؤامرة روّجت أن حكم الإخوان ديكتاتوري واستبدادي وانقلب على الحريات فقد كان الجزاء أيضاً من جنس العمل، وها هو الكاتب والروائي المصري علاء الأسواني أحد أشد المحرضين يقول "إنه نادم على التصويت ب(نعم) لدستور 2014"، مشيراً إلى أن السلطة الحالية تخالف كافة مواد هذا الدستور وتنتهك ما يتضمّنه من حقوق وحريات. وحول صور انتهاك الدستور قال الأسواني في حواره على قناة "أون تي في": "قانونا الانتخاب والتظاهر، إضافة إلى قرار السلطات الأخير القاضي بتحصين عقود الاستثمار، جاءت انتهاكاً للدستور المصري"، متسائلاً: "لماذا نزل المصريون للتصويت بنعم، ولماذا لا يتم احترام جهد وعمل لجنة الخمسين التي كتبت الدستور ؟". واستدل الأسواني بشهادة مجلس الدولة التي أدلى بها حول قانون الانتخاب، والتي أكد من خلالها انتهاك الدستور لقانون الانتخاب الجديد!
وقبل أيام من جلوس مرشح العسكر على عرش مصر جاءت صورة أخرى من الجزاء من جنس العمل، فالسيسي الذي ابتكر عبارة "ما فيييش" كناية عن الوضع الاقتصادي المتأزم لمصر، والذي دعا المصريين إلى التقشف، والذهاب إلى العمل والجامعة مشياً على الأقدام، وطالب كل مغترب بالتبرّع بعشرة دولارات من أجل مصر.. هذا الرجل هو نفسه الذي بدأت السلطة الانقلابية تمهد له حياة الأمراء والأغنياء بإصدار قانون بتعديل المرتب الأساسي لرئيس الجمهورية وبدلاته من 22 ألف جنيه إلى 42 ألف جنيه! مع ملاحظة أنه سيستمر في استلام مكافآت معاشاته التقاعدية عن خدمته في الجيش، وستكون مبالغ مهولة مقارنة بحسني مبارك الذي أعلن مؤخراً أنه كان يستلم 12 ألف جنيه معاشاً تقاعدياً عن بعض وليس كل المسؤوليات التي تبوأها في حياته العسكرية! [للذكرى: لم يستلم د. محمد مرسي جنيهاً واحداً من مرتباته المستحقة عن عام قضاه في رئاسة الجمهورية!].
[4] جزاء سمنار الحقيقي لاقاه الكاتب الشهير محمد حسنين هيكل إحدى الدايات الفكرية التي ولد على أيديها الانقلاب العسكري، فلأنه فقط قال في بيروت نهاية العام الماضي إن السيسي قال إنه لن يترشح في الانتخابات الرئاسية؛ فتحت عليه أبواب جنهم الإعلام المصري؛ ثم عاد واعتذر أنه قال إن السيسي قال إنه لا يفكر في ترشيح نفسه، ثم قدم قرابين على مذبح الغفران، فأعلن إن السيسي مرشح الضرورة، وأنه لا يحتاج أصلاً إلى برنامج انتخابي!
رغم كل ذلك لم يغفروا له كل ما عمله من أجل تسويق الانقلاب عند المغفلين في الأرض، وشنّت عليه مجلة "روز اليوسف" في عدد واحد فقط حملات قبيحة تحت عنوان "بتاع كل العصور"، عايرته فيه بإعادة نشر مدائحه في الملك فاروق نهاية الأربعينيات، ولحسني مبارك في الثمانينيات! ولمحوا إلى فتح ملف اتهامه بالعمل لصالح المخابرات الأمريكية كما جاء في كتاب "حبال من رمال" صراحة!
الأكثر دلالة على أن هيكل من الذين سيقولون إن لم يكونوا قالوا "إحنا كنا فاكرين قصدهم شريف" هو الحملة الشرسة التي شنها عليه الكاتب الصحفي عادل حمودة في صحيفته (الفجر)، ولطول المقالتين يصعب تلخيصهما لكن يمكن بسهولة الاطلاع عليهما على موقع الصحيفة، فهي صورة مركزة لما سيكون عليه أحوال كل من يخرج عن النوتة! وحمودة هذا هو أحد المطبلين الكبار لهيكل في الصحافة المصرية منذ كان مديراً لتحرير "روز اليوسف" في التسعينيات! وأصدر عنه كتابين غزليين بمعنى الكلمة على شكل حوارات مطوّلة تناولت سيرة حياته العملية والشخصية بعنوان "هيكل: الحياة – الحرب – الحب" و"لُعبة السلطة في مصر".. لكن لأن هيكل تلجلج في الحديث عن رئاسة السيسي فقد كان جزاؤه ناراً حارقة!
ولمزيد من التعرف على حقيقة الوضع الراهن في المحروسة، فلنقرأ جانباً من الاتهامات التي كالها حمودة لهيكل، واستوجبت إهانته، وإذلاله بإثارة علاقة ولديه الهاربين في لندن بالفساد في عهد مبارك وابنيه، فمن تلك الاتهامات مثلا: [قابل مرسي قبل وبعد الانتخابات! التقى بقيادات الإخوان - نصح الإخوان أيام الثورة بعدم ترك الميدان كما طلب منهم عمر سليمان مقابل السماح لهم بتأسيس حزب سياسي - تلقى رسالة شكر من الرئيس السوري بشار الأسد - قابل أمين عام حزب الله مرتين - قال عن قادة قطر إنهم أصدقاء له - قال إن السادات أخبره في نوفمبر 1971 بأنه سوف ينقلب على خط عبد الناصر ويصالح الأمريكان ويجعلها تتخذه رجلها الأول في المنطقة بدلاً من إسرائيل والسعودية، ومع ذلك استمر في العمل معه وشارك بالإطاحة برجال عبد الناصر في السلطة!].
[5] في موقع رصد صباحي؛ اكتشف أحد المؤيدين له أنه من جماعة "قصده شريف"، ولذلك وجّه النصيحة التالية: إلى الثوار.. اللي بيأيّد السيسي: أول ما ينجح انزل احتفل مع: -1 الحزب الوطني! 2 - مع غادة عبد الرازق وبوسي وفيفي عبده! 3 - مع الداخلية اللي قتلت أصحابك في 25يناير ولغاية دلوقت! -4 مع أصحاب المصانع اللي نفسهم الحد الأدنى ما يطبقش! 5 - مع رجال الأعمال الفاسدين! كفاية وإلا أكمل؟ خذ دورة كذا أثناء الاحتفال، لو لقيت أم شهيد واحدة موافقة على السيسي خلاص؛ اتوكل على الله!
ملاحظة فقط؛ كل هذه المواصفات التي يعاير بها مؤيد المرشح الناصري مؤيدي مرشح العسكر كانت متوافرة وبأسوأ منها في مظاهرات 30 يونيو وما قبلها وما بعدها المؤيدة للانقلاب العسكري، والتي يسمونها ثورة شعبية!
السيدة (كان قصده شريف) خسرت نقودها؛ لكن هؤلاء خسروا أكثر من ذلك وهم لا يشعرون!