رغم أنف الضجيج الإعلامي المصري والعربي المؤيد له؛ إلا أن ما يجري الآن في مصر ليس فيه شيء من المعاني العظيمة والأحلام المشروعة التي كانت موجودة في انتخابات 2012! فقد تغيرت أشياء كثيرة، وجرت في وادي النيل دماء غزيرة وليس مياهاً! والحلم في أن يعيش المصريون في مجتمع خالٍ من الظلم، واللا مساواة والعسكر انتهى (مؤقتاً على الأقل لكن إلى حين لا يعلمه إلا الله وحده!)، وعاد الزي العسكري يفرض نفسه في كل مكان بدءاً من دار الرئاسة.. وأثبتت قوى في المعارضة المصرية أن الهواء النقي للربيع العربي لم يطهرها من الضعف والركون إلى الشيطان، والدوران مثل ثيران السواقي وراء المصالح الحزبية، والأوهام العقائدية، والأحقاد القديمة! تستطيع قوات الجيش والأمن العاتية أن تمرر مسرحية الانتخابات وعدداً آخر مثلها كلما احتاجت سلطة الانقلاب إلى شيء منها لتجميل وجهها القبيح.. هذا أمر ليس بجديد في مصر منذ الانتخابات الحزبية في العشرينيات؛ لكن من قال إن ذلك كان هو الصواب، وأنه وضع أكبر وأقوى بلد عربي على الطريق الصحيح للتطور والنماء؟ وها هي مصر وفي القرن الحادي والعشرين تتلقى مساعدات عسكرية (!) من دولة الإمارات؛ التي لم تكن شيئاً مذكوراً قبل خمسين عاماً فقط يوم كانت السمعة التاريخية والإعلامية لمصر في عنان السماء؛ بالإضافة إلى الدعم المالي والنصائح وخطط المؤامرات للمحافظة على.. مدنية مصر ودورها القومي! التقاء العسكر وفلول المخلوع حسني مبارك مع قوى الردة الديمقراطية الثورية الذين انقلبوا على حلم المصريين؛ على غرابته أو مفاجأته ليس غريباً على طبائع الغدر والنذالة البشرية، وهو المعنى الذي عبّر عنه المثل الشعبي المصري بعفوية: "طول ما أنا زمّار وأنت طبّال.. مسير الليالي تجمعنا!".. وهي حالة بشرية موجودة أيضاً عندنا في اليمن وسنجدها في تونس وليبيا، ويمثلها هذا التماهي والتجانس الحرام بين الزمّاريين والطبالين الذين تناسوا تناقضاتهم الخاصة وتفرغوا لتناقضهم الكبير مع أحلام الشعوب العربية في أن تعيش مثل سائر شعوب الأرض لا تستبد بها بيادة، ولا يحكمها إلا من جاء به الشعب في انتخابات حرة ونزيهة كائناً من يكون.. وأليست هذه هي الدندنة التي كان الجميع في المعارضة العربية يدندنون بها طوال ثلاثين عاماً قبل اليوم؟ حتى ظننا أن المشكلة فقط كانت في الزمّارين الحكام والعسكر، وبدو الصحراء، وأصحاب المصالح التجارية حتى كانت الطامة الكبرى في الانقلاب العسكري المصري، وانكشفت حقيقة الطبّالين في المعارضة (الزمارون كانوا مكشوفين منذ البداية!) وأنهم هم أيضاً لا يقبلون بحكم الشعب إلا إذا كان في مصلحتهم.. وإلا إذا أوصلتهم الديمقراطية إلى الكراسي.. أما إن كانت النتيجة أن يظلوا في الشارع معارضين بأمر الشعب فلا كانت ديمقراطية ولا كانت الحرية، ولا كان الشعب.. وأهلاً وسهلاً بعودة الزمارين فالطبالون العرب.. في الخدمة! ولذلك فبالأمس واليوم عادت مصر لتنتحب (بالحاء وليس الخاء!).. وكيف لا تنتحب وهي ترى إعادة جديدة بائسة لمهازل "الزمن الجميل!" في تزوير إرادة الأمة يوم تصير الديمقراطية مبايعة على الهواء مباشرة، والفائز معروف من قبل أن يترشح! والنتيجة جاهزة تكاد تبدي زينتها، والإرادة الشعبية تعبر عن نفسها بوصلات الرقص الشرقي العنيف أمام لجان الانتخابات والاستفتاءات لأنها هي التعبير الحقيقي عن تحالف قوى الزمارين والطبالين! ومرشح العسكر يطالب أن يمنحه 35 مليون مصري تفويضاً جديداً لمواجهة الإرهاب (المقصود طبعاً المعارضة السلمية ضد الانقلاب وليس المواجهة ضد الإرهابيين في سيناء لأن هذه لا تحتاج إلى تفويض من أحد! وقد استنتج بعض المراقبين من الرقم المحدد أنه سيكون نسبة التزوير القادمة أو نسبة الفوز التي سيعلن أنه حصل عليها!). نعم.. وكيف لا تنتحب مصر؛ وهي ترى إهداراً انقلابياً لخمسة استحقاقات انتخابية قال فيها المصرون رأيهم بحرية لم يشارك فيها ميت ولا غائب كما جرت العادة، وكلفت كل واحدة منها قرابة مليار جنية.. لكن الأخطر أن الانقلاب عليها أعاد الوضع إلى ما كان عليه عشية ثورة المصريين على نظام النهب، والظلم، والعمالة للخارج! يوم كان المصريون ينصرفون أيام الانتخابات للنوم والاستجمام تاركين عملية التصويت لفرق الأمن والمخبرين يقومون بها نيابة عن الشعب! سوف يسجل التاريخ أن الذين قتلوا الحلم العربي لم يكونوا فقط من مربع فلول وبقايا الأنظمة المخلوعة (او الزمارون!)؛ بل شارك في عملية القتل رجال ونساء، مفكرون وأدباء وإعلاميون، وناشطون وسياسيون ومثقفون، ورجال كهنوت مسيحي وأشباههم من علماء المسلمين، طالما نظرت إليهم الشعوب كأمل أخير ليكونوا هم الذين يوقدون شعلة الأمل والحلم الجميل فكانت الفجيعة أنهم هم الذين أعانوا الجزار على ذبح الضحية، ووفروا له الأجواء الرومانسية ليرتكب مذبحته آمناً أن وراءه وأمامه طبالين يغطّون بضجيج طبولهم على آنات الضحايا.. ويبيحون إراقة الدماء بالكلام المنمق عن نوع جديد من الديمقراطية لم يسمع به أحد من العالمين من قبل، وباتهام الضحايا بتهم الإرهاب والعمالة وخيانة الوطن والارتباط بالخارج.. وهي للمفارقة الاتهامات نفسها التي كان الحكام الزمارون يتهمونهم بها قبل زمن الربيع العربي! إن خيانة المثقفين والمفكرين والعلماء ورجال القلم وأصحاب الرأي للمبادىء والشعارات كما حدث في الحالة المصرية ليست أمراً جديداً.. لكن ما يزيد في قبحها أنها حدثت في الزمن الذي تمايزت - أو هكذا ظننا!- فيه الأفكار والمواقف تجاه مفهوم مسائل مثل الديمقراطية والإرادة الشعبية، والحريات، وحقوق الإنسان بعد زمن من التيه البابلي وتبلبل التعريفات والتقييمات حولها؛ جعل قوى الأمة تدفع أثماناً باهظة من حرياتها، وأثماناً أفدح من حظ الأوطان والشعوب في التقدم والتطور والعزة والكرامة.. وفي اليوم الذي ظن الناس أنهم قد قبضوا بأيديهم على شعلة النور ضاع كل شيء! وتوالت الخناجر تطعن الظهر بشماتة وحقد وغدر وترددت عبارة الضحايا: "حتى أنتم يا...!".