الحديث في الشأن المصري ليس ترفا؛ فمصر هي البلد المؤثر في المنطقة، وما يجري فيه: خيرا أو شرا ينعكس على الجميع، وربما يجوز القول إن تأثير ثورة 25 يناير المصرية عربيا وعالميا ضد حكم العسكر كان أكثر من تأثير الثورة في تونس؛ رغم أن هذه كانت هي الأنموذج الأول والملهم لثورة المصريين! ومن الواضح أن انتكاسة الثورة في مصر بعد الانقلاب العسكري كان له أيضا تأثيره على الجميع؛ فانتعشت جبهات المخلوعين في اليمنوتونس، وامتد الأمر إلى ثورة سوريا، واسترد الصهاينة أنفاسهم، وبدأت نذر التهديدات ضد غزة إلى درجة التحريض العلني في الإعلام المصري على غزوها وتطهيرها من حماس! وكذلك اشتد الحصار عليها من الجانب العربي بأكثر مما يحدث من الجانب الصهيوني! وتحولت ثورات الربيع العربي إلى أيتام على موائد اللئام، كل متضرر منها يستهدفها ليلا ونهارا، وغلبت أصواتهم الفضاء الإعلامي بعد أن جاء زمن كان قصارى ما يتمنونه أن يصاب الربيع العربي بالعمى عنهم! الذين تجرعوا السم!
خطة الانقلاب العسكري في مصر لعبت بمهارة على غباء القوى السياسية العلمانية الكارهة لكل ما هو إسلامي؛ وأعطت لكل ذوق ما يشتهي؛ فالعامة فجروا غضبهم بافتعال المشاكل التموينية وانقطاع الكهرباء وانعدام الوقود، والذين ما يزالون يتاجرون بالقضية الفلسطينية جرعتهم فكرة أن الرئيس مرسي والإخوان مرتبطون بالمخطط الأمريكي الصهيوني في المنطقة، وجماعة الفرعونية جنتهم بالحديث عن التنازل عن سيناء لحماس وحلايب للسودان، واليسار الماركسي والمسيحيون السياسيون أثاروهم بالحديث عن الأسلمة والأخونة، وسن زواج الصغيرة! وطبعا المقصود بهؤلاء عامة المنتمين لهذه التيارات؛ أما القيادات فقد كانت تعرف الحقيقة، ومتورطة في مؤامرة الانقلاب منذ البداية؛ إن لم تكن هي ممن أسهم في الإغواء والتحريض!
وصحيح أن حقيقة الانقلاب ومؤيديه في الداخل والخارج كانت مكشوفة منذ البداية لغير عميان البصيرة؛ إلا أن المقاومة السلمية التي أبداها المعارضون للانقلاب أخرجت كثيرا من الحقائق إلى العلن، واكتشف العامة أن الأوضاع المتدهورة ما تزال قائمة بأسوأ مما كان عليه الحال.. وأخيرا مع الانتخابات الرئاسية المسرحية بدأت القوى المخدوعة من زعمائها تكتشف حقيقة الانقلاب ومدى الخسار التي ستلحقها بسببه.. ولكن ي الوقت الضائع!
الدعم المعنوي الأمريكي الصهيوني وتأييدهم للانقلاب العسكري صار من المعلوم في تاريخ الانقلابات بالضرورة، ولا عزاء للذين بلعوا الطعم أن الانقلاب على رئيس إسلامي ينتمي للإخوان المسلمين هو ضربة لمخططات صهيونية وأمريكية! وقبل أيام ناشد الصهيوني العتيد أيهود باراك الإدارة الأمريكية ألا تلح كثيرا على النظام المصري في مسألة الديمقراطية وحقوق الإنسان حماية لمصالحها (ولعدم الإحراج!) مضيفا أنه شعر بالفرح بعدما تدخل الجيش المصري واعتقل الرئيس المعزول محمد مرسي, وأخرج الرئيس المخلوع حسنى مبارك من السجن. ودعا باراك الولاياتالمتحدة إلى دعم المرشح الرئاسي المصري عبد الفتاح السيسي خلال المرحلة الحالية وعدم انتقاده بشكل علني، وتأجيل أي خلافات معه إلى ما بعد توليه السلطة. وفي تصريح آخر قال محلل الشئون السياسية في "راديو إسرائيل" شمعون أران إن تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود باراك, التي دعا فيها واشنطن لدعم المرشح الرئاسي المصري عبد الفتاح السيسي, لا تمثل إسرائيل رسميا، لكنه اعترف بوجود ارتياح كبير في تل أبيب من احتمال وصول السيسي إلى سدة الحكم. وبرر أران في تصريحات لقناة "الجزيرة" في 9 مايو هذا الارتياح بأن السيسي ظل على اتصال مستمر مع إسرائيل عندما كان في منصب وزير الدفاع، كما أن هناك تطابقا في المصالح بين الجانبين، وعلاقات استراتيجية وتعاونا عسكريا واستخباريا على مستويات مختلفة. وأضاف أن هناك أملا كبيرا في إسرائيل بأن يواصل السيسي هذه الرؤية عقب توليه الرئاسة، مشيرا إلى أن السيسي يعمل أيضا ضد حركة حماس, وجماعة الإخوان المسلمين, وهو نفس ما تعمل إسرائيل من أجله! وفي مقال له في الاتجاه نفسه كشف (عادل حمودة) رئيس تحرير صحيفة الفجر المصرية المؤيد بجنون للسلطة العسكرية حقيقة التأييد الأمريكي الإسرائيلي المزعوم للرئيس محمد مرسي، والضربة القاصمة المزعومة التي تلقاها الأمريكان والصهاينة بثورة السيسي، والبرادعي، وحمدين صباحي، والبابا وشيخ الأزهر، ومحمد حسنين هيكل(!!) ففي مقال له بعنوان (أسرار رحلة وزير الخارجية الأولى إلى واشنطن بعد 30يونيو) تحدث عن حقيقة الموقف الأمريكي مما يحدث في مصر ، والقوى التي دافعت عن الانقلاب قائلا:[إن القرارات التي تخرج من البيت الأبيض تتأثر بخمس قوى لها نفوذها في اللعبة السياسية: البنتاجون-أو المؤسسة العسكرية وتجار السلاح- وشركات البترول، المحافظون، والإيباك أو اللوبي اليهودي! ولا تشغل هذه القوى نفسها بالقواعد الاخلاقية في معاملاتها السياسية، وإنما تسأل عن حجم المصالح التي يمكن تحقيقها ومدى الاستفادة منها، وقد أجمعت كلها (!!) على أن ما حدث في مصر بعد 30يونيو يحقق منفعة لها فلم تتردد ف مساندته رغم اعتراض البيت الأبيض عليه!
والذين عصروا.. المجاري!
لم يكن الانقلاب العسكري في مصر هو المأساة الحقيقية؛ المأساة السوداء كانت في مواقف المفكرين والنظرين والنشطاء الليبراليين، والاشتراكيين، والماركسيين والناصريين، وأساتذة العلوم السياسية، وفقهاء القانون الدستوري الذين دعموا الانقلاب العسكري، ولم يستطيعوا أن يصبروا على الديمقراطية ربع سنة فقط..! وألقوا بكل ضجيجهم عن الدولة المدنية الحديثة، ورفض حكم العسكر في مجاري القاهرة، وسارعوا للاصطفاف حول العسكر، وظلوا طوال الشهور الماضية ينافحون أن ما حدث كان ثورة شعبية وليس انقلابا عسكريا.. وأن الشرعية الدستورية (الحرة النزيهة وليست المزورة) تنتهي إذا خرج الناس في مسيرات إلى الساحات مما يبيح للعسكر قيادة دباباتهم وإعلان الاستيلاء على السلطة!
نتذكر كيف كان الحكام المؤبدين يهولون اشتراطات قيام حياة ديمقراطية كاملة بأن الأمر يحتاج إلى خبرة وتعليم يبدأ من البيت والمدرسة، وها هو المشير/ السيسي الرئيس القادم عبر الدبابة يبشر المصريين والعرب الذين أيدوه أنهم يحتاجون من عشرين إلى خمسة وعشرين سنة حتى يتمتعوا بديمقراطية حقيقية كما هي في موجودة في الخارج! ومن المعاني الضمنية لذلك: ألا يستغرب أحد إن كانت الانتخابات القادمة من نوعية انتخابات الزمن الجميل التي كان الزعيم يحصل فيها على 99% وأكثر قليلا.. وإذا احتشدت الدولة بكل أجهزتها وإمكانياتها وراءه! وإذا تناثرت اتهامات الخيانة والعمالة للمرشحين المنافسين ولو كانوا يؤدون دورا مسرحيا.. لأن الزعيم وأعوان الزعيم لا يغفرون أن ينافسهم أحد.. أي نعم؛ قد يسامحون من يسرق وينهب.. أو من يقتل الشعب بإهماله وفساده لكن منافسة الزعيم هي المقابل البشري للشرك بالخالق!
من الآن وحتى ربع قرن من الزمن؛ لا يجوز لإنسان أن يحلم بأن يكون المجتمع المصري (ومن باب أولى بقية المجتمعات العربية) جاهزا للسماح بأي ممارسة ديمقراطية صحيحة مثل: التداول السلمي للسلطة، أو حصول معارضة على أغلبية تمكنها من تشكل حكومة تفرض برنامجها وتطبقه كما يحدث في العالم الآخر!
وخلال ربع القرن القادم سوف نسمع ونقرأ طبعة جديدة من انتخابات: الحزب الحاكم حصل على الأغلبية الكاسحة، والمعارضة تشكو التزوير وتدخل الدولة لدعم الزعيم وحزبه المفضل، وعلى الذين ضاقوا من سنة واحدة في ظل ديمقراطية الإسلاميين أن يسكبوا مياها من مجاري القاهرة على نفوسهم حتى يستطيعون تحمل حكم العسكر بكل طغيانه وزعيمه يحدد لهم ربع قرن قادم لا يجوز خلاله الحلم بديمقراطية على النمط الإسرائيلي.. أو الدعوة إلى مظاهرات واعتصامات تعيق التنمية! أو الإكثار من نقد المسؤولين وإثارة حساسيتهم!
وابتدأ.. المشوار!
ولأنها انتخابات من النوعية التي عرفها الزمن العربي الجميل المغموس في التزوير والمذلة والمهانة، والاستبداد؛ فلن تخلو الانتخابات الرئاسية الجديدة في مصر من ألاعيب الأجهزة السرية في أم الدنيا في.. كل شيء! وقبل شهور روجت هذه الأجهزة لاختراع مصري يشفي من مرض الإيدز وتليف الكبد عن طريق أكل أصبع كفتة، وقبل أيام نشرت الصحف المصرية خبرين حول العثور على أقدم صورة مزعومة للمسيح عيسى عليه السلام أثناء وجوده في مصر، وكذلك العثور على حيوان عروسة البحر (نصفه جسد أنثى والآخر جسد سمكة!) ميتا في أحد الشواطىء قرب مدينة سفاجا على البحر الأحمر، ولإثبات المصداقية فقد كان الخبر مرفقا بصورة لعروسة البحر كما هي موصوفة في المخيلة الشعبية! وهناك تصريحات عن اكتشاف طريقة موته باصطدامه بمركب (أي ليس في مسيرة رافضة للانقلاب!) وتم إرساله إلى متحف العلوم لطبيعية لتحنيطه!
ويقيني أن هذه الأخبار هي من نوعية الأخبار المسيسة التي يراد بها إلهاء العامة عن فضيحة أو مصيبة تسببت بها السلطة! أو لإلهاء الناس عن طبخة التزوير الكبرى التي ستجري قريبا في كل دور الانتخابات المصرية، وتبلّعهم مؤامرة الانقلاب العسكري إلى آخر قطرة!
ومثل هذه الفبركات ليست جديدة في مصر؛ فبعد هزيمة يونيو المخزية عام 1967 انشغل المجتمع المصري بحكاية ظهور صورة العذراء مريم فوق إحدى الكنائس في القاهرة، وتحول الأمر إلى مولد إعلامي وشعبي وسياسي، وتحولت المنطقة إلى مكان تجمع شعبي أشبه بالموالد الشعبية المشهورة في مصر! وبسببها كتب الدكتور الشيوعي المعروف/ صادق جلال العظم كتابه المثير للجدل (نقد الفكر الديني) على هامش الهزيمة المذلة؛ وبكل ما فيه من تجاوزات عقائدية وهرطقات فكرية مست ثوابت الإسلام.. وكان أغرب ما فيه هو تحميل مسؤولية الهزيمة للفكر الديني والرجعية العربية؛ رغم أن دولتين من الدول العربية المهزومة كانتا ذات نظامين تقدميين متطرفين في يساريتهما هما: مصر وسوريا، والثالثة: الأردن تساوي الشهادة لها بالرجعية مساوية لوصف الأنظمة العربية بأنها ديمقراطية!
ومثل صادق العظم؛ صنع الشاعر المشهور/ نزار قباني في ديوانه القنبلة ( هوامش على دفتر النكسة) الذي أضاف اللغة القديمة، والشعر القديم إلى قائمة المسؤولين عن الهزيمة قبل أن ينسف الجميع عن بكرة أبيهم؛ مستثنيا نفسه كشاعر كان لقبه: شاعر المرأة، وظل طوال سنوات ما قبل الهزيمة غارقا في شعر السمراء التي قالت له، وحلمات النساء وصدورهن التي غرز فيها أعلام انتصاراته!