التقرير الذي نشره موقع "الوحدوي نت" عن مظاهر الغش في امتحان مادة اللغة الإنجليزية الخميس الماضي في بعض مدارس تعز؛ يثير الرعب من المدى الذي وصلت إليه الظاهرة! أما إذا أضفنا إليه ما يصل من أخبار؛ بعضها على لسان مشرفين على الامتحانات؛ عما حدث في بعض مدارس عدن فالأمر يصير كارثة وطنية بدون جدال، وانعقاد مؤتمر وطني من أجلها هو أقل الواجب المفروض! أعلم أن هناك ممارسات مماثلة في السوء في كل محافظة وخاصة تلك النائية، ومن سوء حظ البلاد وحسن حظ الغشاشين أن تلك الممارسات لا تظهر إلى العلن بالصورة التي تحدث في مناطق أخرى، لكن في الإجمال فظاهرة الغش التعليمي الشامل في اليمن تكرست منذ سنوات طويلة، ولم يعد ينفع معها الترقيع والدعممة، والأماني الطيبة؛ بعد أن بدأت نتائجها السيئة تظهر في امتناع دول مثل ماليزيا (كما سمعت) اعتماد شهادة الثانوية اليمنية إلا بعد اختبار قبول لحامليها! وكما تظهر في حقيقة رسوب كثير من الطلاب اليمنيين الدارسين في الخارج في سنوات دراستهم الجامعية الأولى؛ رغم أرقام المعدلات الكبيرة جداً التي تتزين بها شهاداتهم الثانوية، والتي يحصلون عليها بالطريقة نفسها التي يتم فيها تزوير انتخابات الرئاسة والبرلمانات العربية! وكما قلنا في مقال سابق إن أسوأ ما في هذه الكارثة ليس هو محاولة الطلاب الغش؛ فهذه يمكن أن نجدها في أي بلد حتى في اليابان والصين (هناك أفلام في اليوتيوب تسخر من محاولات الغش في اليابان باستخدام التكنولوجيا).. لكن المصيبة الأسوأ هو الاقتناع الذي صار مترسخاً عند العامة وأولياء الأمور، وممثلي الجهات الرسمية المحلية في أن الغش حق طبيعي لأسباب شتى لا تعدمها القرائح المريضة! وفي تقرير "الوحدوي نت" المشار إليه نماذج من تجليات هذا الاقتناع الشعبي كما يتضح في الممارسات المرصودة التالية: التجمهر عند بوابات اللجان، إلقاء قنبلة صوتية في إحدى اللجان، رجال الأمن والملاحظون شاركوا في تسهيل الغش، تم السماح باستخدام الهواتف والواتس آب، سائقو الدراجات النارية أسهموا في إيصال الأسئلة والإجابات من الداخل إلى الخارج والعكس، حالات إطلاق رصاص... المهم وكأننا في انتخابات من أيام الزمن الجميل المأسوف على فساده! وحدث ولا حرج أيضاً عن حالات الغش الجماعي داخل اللجان باستخدام الكتب والمشاورة الجماعية وربما بإشراف المشرفين أو مدرسين وخبراء يأتون خصيصاً لهذا الغرض! قبيل بدء الامتحانات قرأنا أن 30 ألف عسكري سوف يشاركون في المحافظة على النظام أثناء الامتحانات ونزاهتها بالضرورة، ولحظتها قلت لمن بجواري إنهم يكفون لتحرير فلسطين.. لكن المؤكد الآن أنهم لا يكفون للمحافظة على نزاهة الامتحانات، أو حماية لجان الإشراف مما ينتظرهم من غضبة شعبية في حالة فرضوا النظام ومنعوا الغش! بل سيوجد هناك من اللجان الأمنية من يسهم في المجهود الحربي في تسهيل الغش ولتفادي المتاعب مع الأهالي! ويصير الأمر كما يقال: جئنا بك يا عبد المعين تعين وجدناك عايز تنعان! وإن كان هذا لا يمنع من القول إن حماية أعضاء لجان المراقبة من غضب الطلاب والأهالي مهمة جداً وتساوي في أهميتها مهمة حماية أنابيب النفط وخطوط الكهرباء من التخريب! مواجهة هذه الظاهرة الخبيثة والخطيرة على مستقبل البلاد لن تكون بإجراءات أحادية من جانب وزارة التربية التي سيكون أقصى ما تستطيعه هو إعداد نماذج الامتحانات المتعددة؛ لكن يبقى أن مواجهة الغش عملية أكثر تعقيداً مما يظن البعض.. وهي أشبه بمواجهة مشاكل كالإرهاب، والمخدرات، والفساد التي عجزت دول عظمى بأجهزتها عن القضاء عليها! وكما لاحظ الجميع فإن مدخلات عملية الغش تشارك فيها جهات عديدة، ولذلك فلا بد أن تكون عملية المواجهة الحاسمة موجهة لكل هذه المدخلات التي تجعل من الغش عملية كالهواء يصعب السيطرة عليه! وأذكر قبل سنتين أو ثلاث أنه تم نقل امتحانات إحدى المحافظات إلى داخل العاصمة لتفادي المشاكل التي يمكن أن تحدث بسبب توتر الوضع الأمني في البلاد، وخشية حدوث عمليات غش إجباري واسعة النطاق.. والذي حدث؛ وفقاً لأحد الطلاب من الجيران كان مسجلاً في تلك المحافظة؛ أن الغش حدث وحسب النظام والقانون المعروف، وكانت عملية دفع النقود مقابل السماح بالغش تتم علانية، ودون حياء.. والكل كان راضياً ومقتنعاً! الحل الذي اتخذته اللجنة المشرفة على الامتحانات في عدن المتمثل بإلغاء امتحانات بعض اللجان؛ التي شهدت موجة تسونامي حقيقية من الغش؛ هو موقف تربوي عظيم لكن يبقى أن يجد دعماً من أعلى مؤسسات الدولة.. والأكثر أهمية أن يتحول هذا الموقف إلى سياسة رسمية حازمة.. وأن تتحرك اللجان في كل المحافظات لإلغاء امتحان أي لجنة يثبت وجود غش جماعي برعاية رسمية محلية أو شعبية فيها.. وإلا فإن الإجراءات التي اتخذت ضد الغش في منطقة ما سوف تتحول إلى كارثة ضد الدولة والسلطة المحلية فيها إن وجد الناس أن الغش مسموح أو مسكوت عنه في منطقة وممنوع في أخرى، ومن السهل أن تتحول إلى فوضى شعبية يستغلها المخربون كما حدث مع أزمة المشتقات النفطية وانقطاع الكهرباء! ولأن الأمر أخطر مما يظهر على الحقيقة؛ فالمواجهة الجادة تبدأ من بعد الامتحانات مباشرة، ولا بد ان تبدأ مجموعات تربوية خاصة لدراسة كيف يمكن منع الغش.. ولا بد معها من فتح حوار مجتمعي عبر وسائل الإعلام ليسهم الجميع أو من يريد في اقتراح حلول واقعية أكثر صرامة لمنع الغش؛ أو على الأقل لإعادته إلى حجمه الطبيعي المتسق مع الطبيعة البشرية قبل أن نجد أنفسنا مضطرين لمنح الغش حصانة من المساءلة والعقاب أسوة بالذي ما يتسماش وحصل على حصانة من المساءلة على جرائمه وبلاويه في حق اليمن واليمنيين! بقي تعليق أخير بغرض تخفيف الكآبة التي تسببها جريمة الغش التعليمي الشامل؛ عن استخدام الدرجات النارية (أو الموترات) في تسهيل عمليات الغش؛ فقد كان هناك موترات تسهم في جرائم السرقة، وفي عمليات الاغتيالات الإجرامية.. وكان هناك حادثة الموتر المتوكلي الذي أصروا على وصفه بأنه موتر سياسي.. والآن صار لدينا موتر مثقف يسهم في العملية التعليمية التربوية، ويسهم في تسهيل نقل المعرفة بين السائل والمجيب.. وفي يوم ما قد يلقى تكريماً في مناسبة يوم العلم والمعلم!