تعلّقت غاية الخلق بالإعمار، الاستخلاف، «وإذ قال ربّك للملائكة إنّي جاعلٌ في الأرض خليفة»، فيما كان اعتراض الملائكة وحيدًا، «قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك»، وإذا كان الرّد الإلهي قد جاء واضحًا، «قال إني أعلم ما لا تعلمون"، فإنّ سياق الآية يخبرنا بأنّ غاية الخلق لا ترتبط بالموت وسفك الدّماء، بقدر ما تتعلّق بالحياة والنّماء. وردت الآية أعلاه في سورة البقرة، ولأن ترتيب سور القرآن لم يكن عبثيًّا فقد جاءت البقرة تاليةً لفاتحة الكتاب، وفيها تم الحديث عن الخلق الأول، المعصية الأولى، الطرد الأول، فيما وردت قصة القتل الأوّل في سورة المائدة التي تحتل ترتيبًا متقدّمًا أيضًا في سور القرآن الكريم.
وفيما رسمت سورة البقرة، بدقّةٍ بالغة، قصّة الصراع، بين الإنسان والشيطان في البدء، صوّرت سورة المائدة قصّة الصراع بين الإنسان وأخيه الإنسان، لتردّانه، أي الصّراع، لأصله الأوّل: إثبات الأنا.
لا يختلف الأمر حينما يتعلّق الأمر بإبليس أو قابيل، و «من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنّه من قتل نفسا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إنّ كثيرًا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون».
غاية الخلق، فلسفة الخلق، قصة الصراع، تمثّل أوّل المحاور التي تحدّثت عنها الكتب السّماويّة المقدّسة، لا يتعلّق الأمر بالقرآن فقط، فقد عولجت هذه المحاور الثلاثة في سفر التّكوين أيضًا، أوّل أسفار التّوراة، مع التّنويه إلى أن التوراة تعدُّ كتابًا مسيحيًّا مقدّسًا أيضًا، فإذا كان الإنجيل هو العهد الجديد، فإن التّوراة هي العهد القديم.
هكذا أراد الله أن تكون للحياة، قيمة الحياة، كلّ هذه القدسيّة، فإذا كان قد ورد النّهي في سورة البقرة، على لسان الملائكة، عن سفك الدّماء باعتباره أمرًا كارثيًّا، فإنّ الصورة قد اكتملت تمامًا في سورة المائدة «من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنّما قتل النّاس جميعًا».
إنّها دعوةٌ للإحياء إذن، ذلك أنّه لا يكفي أن تحافظ على حياتك وإن كان هذا أمراً مفترضاً «ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة»، لكنك تسمو كلما حافظت على حياة الآخرين، وهي دعوةٌ شاملة، «ومن أحياها»، للنفس حرمتها حتى ولو لم تكن مؤمنة، فالنفس البشريّة، وفق التصوّر القرآني، واحدة، ولهذا فقد كانت خطيئة موسى عليه السّلام أنّه قتل إنسانًا، رغم أنّ هذا الإنسان لم يكن من شيعته، أخطأ موسى وندم على فعلته، فيما قال الرّيمي بأنّه يحتسب قتلة بنت الثلايا وبنت البحم شهداء عند الله.
ندم قابيل على قتل أخيه ولم يندم الرّيمي، ينبغي التّنويه إلى أن قابيل كان مؤمنًا بالله أيضًا، لكنه كان يحمل حقدًا على أخيه، فقط لأن القربان لم يُتَقَبّل منه، يقول القرآن في هذا "فسوّلت له نفسه قتل أخيه"، على أنّ صديقي الإرهابي لا يعرف حتى الآن أنّ نفسه سوّلت له أيضًا "قتل أخيه"، إنّه ينتهك أوّل المقدّسات في كل الكتب السّماوية: الحياة. ثم يطلب من الله مكافأةً على مثل هذا الأمر.
هل رأيتم، إذن، تلميذًا أشدّ بلادةً منه؟
كلّ ما في الأمر أنّ صديقنا الإرهابي الذي كان نائمًا في بداية الحصّة، استيقظ فجأةً في سورة التّوبة، لكنّه، على أيّة حال، لم يصبح بليدًا بمحض الصّدفة، ذلك أننا، جميعنا، وفي الوقت الّذي كرّس الإسلام فكرة الحياة كأصل والموت كاستثناء، كنّا نردّد في المدرسة شعارًا يقلب الهرم تماماً: والموت في سبيل الله أسمى أمانينا.
هذا الشّعار الكارثيّ المضحك الّذي يتناسى غاية الخلق الأولى، شكّل جيلًا كاملًا من المتبلّدين، فقط لأن صديقنا واضع الشعار لم يدرك أنّه من غير الممكن أن يكون الله الحكيم قد خلق الإنسان، في سلسلة حيواتٍ رائعةٍ ومعقّدةٍ في آن، ليطلب منه في آخر المطاف أن يذهب إلى الموت.
صديقنا ذاته الّذي إن سألته: ما هي أمنيتك في الحياة؟ يجيبك على الفور: أن أموت. لا يعرف، حتى الآن، أنّه تلميذٌ بليد، وهنا تكمن الكارثة.