مرة أخرى، تكون القبيلة في مرمى النيران بسبب "أدوارها المتداخلة والتي باتت تشكل معضلة تعوق بناء الدولة اليمنية الحديثة"، حسب أحدث الدراسات التي نفذها المرصد اليمني لحقول الإنسان بالتعاون مع مركز أبحاث التنمية الدولية (IDRC) بكندا، بشأن دور القبيلة في الحياة السياسية والاجتماعية في اليمن. الدراسة التي استغرق إعدادها أكثر من عامين، جاءت بعنوان "القصر والديوان، الدور السياسي للقبيلة في اليمن"، وأطلقت خلال ورشة عمل أقيمت في العاصمة اليمنية صنعاء صباح اليوم الثلاثاء، حيث حرص فرقي البحث خلالها على جمع أكبر قدر ممكن من الأدلة والشواهد على الأدوار السياسية السلبية للقبيلة، ودورها في إعاقة بناء الدولة الحديثة، وكذا طغيان سلطة الشيخ اجتماعياً مقابل طغيان سلطة الرجل الأوحد في النظام الحاكم. حد وصف الدراسة.
الدراسة شملت ست محافظات أربع منهن من الشمال "صنعاء، وتعز، وذمار، وعمران" واثنتين من الجنوب، وهما "أبين وحضرموت"، وهو ما جعل البعض يتهمها بالانتقائية غير البريئة بالنسبة لاختيار مجتمع الدراسة ومحيطها الجغرافي، فهي – حد قول المنتقدين- ركزت على القبيلة في الشمال أكثر منها في الجنوب، فيما اتهمها البعض "بالعمومية"، لكن الكثير من الحاضرين أجمعوا على أنه من غير العادل الحكم على جهد سنوات متواصلة في ساعات قليلة، مطالبين بمنحهم وقتً كافياً لقراءتها ثم نقاشها.
ووصفت الدراسة الدور السياسي للقبيلة ب"الفوضى المنظمة"، في إشارة إلى طبيعة العلاقة بين الدولة والقبيلة. وقد ذهبت الدراسة إلى ضرورة إلغاء مصلحة شؤون القبائل "غير الدستورية". حد وصفها.
وأوضحت أن علاقة التحالف بين النظام والقبيلة قد أدى إلى إضعاف دور القبيلة والدولة كمؤسستين، وخلق عداء بين الدولة والمجتمع المدني، وكذا أدى إلى زعزعة الاستقرار الاجتماعي، وعزز الصراع السياسي بحيث يضمن استمرار النخبة السياسية والنخبة القبلية في الهيمنة على السلطة السياسية والاجتماعية. كما اتهمت شيوخ القبائل - كونهم نخبة محافظة - بالعمل على تعويق التحول الديمقراطي.
إضافة لما سبق، قالت الدراسة أن الجمع بين المؤسسات الحديثة والثقافة التقليدية قد أثّر على الثقافة السياسية، وأضفى عليها طابعاً قبلياً جعلها تتسم بالثأر السياسي التربص السياسي وهما نقيضا التسامح السياسي والثقة المتبادلة والتي هي من أهم مكونات الثقافة الديمقراطية. حد قولها.
وانتقدت الدراسة تسييس السلطة الاجتماعية لشيوخ القبائل، كونها حوّلت القبيلة من بنية "مساواتيه" إلى بنية "تراتبية"، وحولت السلطة الاجتماعية من سلطة قائمة على القبول إلى سلطة إلزامية، بحيث لم يعد شيوخ القبائل يمثلون قبائلهم، بل باتوا ممثلين للدولة في مناطقهم ما أدى إلى تآكل الفضاء الوسيط بين الدولة والمجتمع.
واتهمت الدراسة "القبيلة" بأنها أثّرت سلباً على قدرة الدولة في إنفاذ القانون، كون هذا من أهم شروط المجتمع الديمقراطي مما أدى إلى انتشار واسع للفساد. وقد أدى التحالف بين النخبة القبلية والنظام إلى إخضاع المواطن لقمع مركب أحدهما سياسي تمارسه السلطة، والآخر اجتماعي يمارسه شيوخ القبائل. حد تعبير الدراسة.
الدراسة فرقت في معرض حديثها بين النخبة القبلية "الشيوخ" وبين الجماهير القبلية "القبائل"، وصار الشيخ يتخذ معظم القرارات دون الرجوع إلى جمهور القبيلة، وهذا جرد القبيلة من طابعها المدني التقليدي وعزز طابعها العصبوي . كذلك عملت النخبة القبلية من خلال ارتباطها بعلاقة مصلحه مع النظام على تعويق نشاط منظمات المجتمع المدني من خلال الحيلولة دون تجذر الثقافة المدنية؛ فباتت منظمات المجتمع المدني تنشط في ظل ثقافة تقليدية يغلب عليها الطابع القبلي.
من جانب آخر أوضحت الدراسة أن الطابع الحربي للقبيلة قد سبب في عدم قدرة الدولة على احتكار الاستخدام الشرعي للقوة؛ ما أدى إلى انتشار واسع للعنف سواءً بين القبائل ضد بعضها، أو ضد الدولة. حتى بات العنف هو الأسلوب الأكثر انتشاراً في تعبير القبائل عن مطالبها السياسية.
وقالت الدراسة "إن النخب القبلية لكي تحافظ على مصالحها فإنها تبدي قبولاً تجاه الدولة كونها ضمان لتحقيق تلك المصالح، لكن على أن تكون دولة ضعيفة لا أن تكون دولة مركزية قوية. بينما لا تملك الجماهير القبلية إلا التعامل مع الدولة وإن كانوا يطالبون خطابياً بدولة قوية قادرة على فرض القانون وتحقيق العدالة. وعليه فقد عمل النظام وشيوخ القبائل معاً على تأسيس نظام نخبوي يكرس ما سمته الدراسة"العبودية المختارة".
وعن أثر تحالف النخبة القبلية مع النظام في البرلمان، أوضحت الدراسة أن ذلك التحالف أدى إلى تراجع مستوى الفصل بين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية، وبالتالي تراجع دور البرلمان في مجال الرقابة على الحكومة.
كما خلصت الدراسة إلى أن شيوخ القبائل قد عملوا على توتير العلاقة بين القوى السياسية، وكذا تكريس حالة من عدم الاستقرار السياسي، في حين عمل النظام على توتير العلاقة بين القبائل مما أدى إلى إعاقة عملية استكمال بناء الدولة. وأرجعت الدراسة القوة السياسية للقبيلة إلى تشجيع النخبة الحاكمة للدور السياسي للقبيلة، وهذا الدور السياسي للقبيلة أو بالأصح شيوخ القبائل أدى إلى كبح اندماج المواطنين في العمل السياسي عموما وفي الحركات الاجتماعية الضاغطة على الحكومة لإجراء الإصلاحات على النظام السياسي، وتولد ما يسمى بنظام الالتزام السياسي.
وأشارت الدراسة إلى أن الدور السياسي للقبيلة يؤدي على المدى القريب إلى الحفاظ على السلطة، ولكنه يؤدي إلى الإضرار بالوحدة الوطنية على المدى البعيد.
وطالبت الدراسة في خاتمتها بأن تمارس القبيلة دورها السياسي في إطار سياسي قائم على المواطنة المتساوية، وفي إطار دولة القانون، وفي ظل التعددية والتنافس. كما طالبت بضرورة استكمال بناء الدولة، وفض التحالف بين السلطة الاجتماعية والسلطة السياسية، وإصلاح التشريعات الانتخابية بما يدعم التعددية والتنافسية. وقالت الدراسة أن قانون الانتخابات الحالي يدعم احتكار النخبة القبلية لأصوات الناخبين وأن الحل يكمن في اعتماد القائمة النسبية. كما طالبت الدراسة بضرورة العناية بالتعليم في المناطق الريفية وكذا تحديث الاقتصاد الريفي، بالإضافة إلى تعزيز منظمات المجتمع المدني في الريف كون ذلك سيعزز التعددية التنافسية في الريف.
هذه الدراسة الصادرة عن المرصد اليمني لحقوق الإنسان حاولت قدر الإمكان إظهار قدر من "الازدراء" لدى أطراف سياسية معينة تجاه القبيلة ودورها، وكذال رموزها، وهذه الدراسة تتضمن ما لم تستطع تلك الأطراف السياسية تضمينه في مشروع وثيقة الحوار الوطني المرتقبة كون هذه الوثيقة صادرة عن لجنة ينتمي إليها عدد كبير من المشائخ والأعيان القبلية.