في مطلع سبتمبر وأثناء زيارتي السنوية للوطن الحبيب قمت بزيارة للأمانة العامة للتجمع اليمني للإصلاح والتقيت ببعض قياديي الإصلاح ، وأخبرتهم بوجهة نظري المتمثلة بان الحوثي قادم الى صنعاء لا محالة لحكم اليمن، لأن باب صنعاء هو عمران وقد تم فتحه بالفعل ،وسنة انتزاع الحكم من فئة الى اخرى من السنن الكونية ، وكل المؤشرات تدل على ان تحقيق ذلك اصبح وشيكا جدا ، فقلت لهم على العموم وصيتنا كمغتربين في المهجر لحزب عريق مثل الإصلاح ان يستفيد من قصة الأم والخالة اللتين احتكمتا الى نبي الله سليمان في ادّعاء كل منهما بأمومة الطفل ؟ فتجلت حكمة ودهاء نبيّ الله سليمان في ايهامهما بقطع الطفل الى نصفين وإعطاء كل منهما النصف ! وظاهر ذلك الحكم العدل ولكنه كان بالونة اختبار ليس الّا فما كان من الأم الحقيقية الرحيمة المحبة للطفل الا ان تنازلت عنه لصالح الخالة ، حرصا على فلذة كبدها ، وروح فؤادها من ان تزهق روحة ويهراق دمه ضحية لمغامرة طائشة ومكيدة حاقده ، فقلت لهم : الطفل هو اليمن ، وأنتم يا حزب الإصلاح في هذا الوضع الحساس بمثابة الأمّ ، ويمكن ان تعتبروا الحوثي هو الخالة ، وموعد تسليم الطفل للخالة اصبح وشيكا ، فتبسّم من هذا الطرح وقال لي : الإصلاح كان ولا يزال عند حسن ظن الشعب ًوالناس جميعا ، ولن يكون الّا أمّا لهذا الطفل ، لا تقلق .... انتهى الحديث ... وبالفعل صدقوا ما وعدوا به وكانوا بالفعل أمّاً تستحق الإعجاب والإجلال والتقدير . الان وبعد انقشاع الغبار وزوال السحب المتلبدة ولو جزئيا واستلام الحوثي لصنعاء فعليا وسيطرته على معظم مفاصل الدولة ، دعونا نقف وقفة تأمل وتقييم لما حصل ، سمعنا ولا زلنا نسمع ونقرأ عن مؤامرة سقوط صنعاء ومن هم أطرافها المحليون والاقليميون والدوليون ، وكثرت المقالات والتحليلات والتصريحات وتبادل الاتهامات ، حيث لا زال الكثير من الناس غير مستوعبين صدمة الحدث الجديد والكبير ويحق لهم ذلك ، لان ما حدث لم يكن شيئا يسيرا أبدا ، وليس هذا المقال مكاناً لسرد تفاصيل تلك المؤامرة التي سيكشفها التاريخ يوما ما.
ما لا شك فيه ان هناك بالفعل مؤامرة قد حيكت بعناية وتم إخراجها الى ارض الواقع وأصبحت واقعا يجب التعامل معه ، دعونا ننظر الى الإيجابيات والمبشّرات والسلبيات والمخاوف لما حدث ونركز اكثر على الإيجابيات لأني أحب التفاؤل دائماً . اولا : ما حدث كان بمثابة إلقاء حجر ضخم على مياة بركة راكدة حرك ماءها بعد ركود طويل ، وقد قال الشافعي رحمه الله : إني رأيتُ وقوفَ الماء يفسدهُ إِنّ سَاحَ طَابَ وَإنّ لَمّ يَجّرِ لَمّ يَطِبِ والأسدُ لولا فراقُ الأرض ما افترست والسَّهمُ لولا فراقُ القوسِ لم يصب والشمس لو وقفت في الفلكِ دائمة ً لَمَلَّهَا النَّاسُ مِنّ عُجّمٍ وَمِنَ عَرَبِ
حيث وصلت الأوضاع في شتى مناحي حياة المواطن اليمني الى ركود وشلل قاتل ، وأصبح مثلث صعوبة الحصول على لقمة العيش وانعدام الأمن وهيبة الدولة والعدل وتردي بل وانعدام الخدمات الاساسية كالكهرباء والمحروقات أصبحت كابوسا يوميا يتلقف اكثر من 25 مليون مواطن يمني بشكل يومي ، فكان بالضرورة كسر هذا الشلل والكابوس المرعب بأي وسيلة كانت ، وهذا سر الالتفاف الشعبي الملفت للنظر حول تحرك الحوثي الأخير تحت غطاء إسقاط الجرعة . ثانيا : ما حصل يصب في تحرير اليمن من ربقة الوصاية السعودية، تلك الوصاية المشئومة التي جعلت من اليمن كيانا هزيلا مريضا على سرير الإعاقة تدفع فاتورة علاجه المسكن لالامه وليس الشافي لالامه ، لأنها حريصة على ان يظل مريضا في سريره لا تريد شفاؤه حتى لا يشفى ويقوى عوده فيظهر منه ما يهددها ، كما لا تريد في الوقت نفسه موته ، لأن موته أيضاً سيفتح عليها بابا من أبواب جهنم ، لان الحدود اليمنيه السعوديه والتي تتجاوز 1400كيلومتر تمثل صداعا كبيرا للسعوديه لأسباب كثيرة منها تهريب العمالة ، و تسرب التنظيمات الإرهابيه ، وتهريب المخدرات والأسلحة والممنوعات ، وفي النهايه سيتحتم عليها تحمل معظم تبعات فشل الدولة اليمنية .
ثالثا : تخليص البلاد من بعض رموز الفساد المخضرمة والمعتّقة وبعض مراكز القوى التقليدية التي ظلّت تتحكم في خيرات وموارد ومصير البلاد طيلة ثلاثة عقود ،
رابعا : استعادة هيبة الحاكم ومؤسسات الحكم الذي ضاعت وتبدت بالتقسيط طيلة الأربعة الأعوام الماضية ، وذلك من خلال تمكّن الحوثيين (أنصار الله ) من بسط الأمن والسكينة على المناطق التي يسيطرون عليها ، والبتّ السريع في المظالم ، وتأمين الطرقات ، وتمكنهم من إيقاف الاعتداءات على شبكات الكهرباء وأنبوب النفط ، الأمر الذي أعاد ولو بشكل جزئي الآمال لشريحة كبيرة من الناس وبالأخص سكان العاصمة عن إمكانية تحسن الأوضاع ورجوع المياه الى مجاريها .
تلك كانت مبشّرات إيجابية على أرجح تقدير بعد ما يسمى بسقوط صنعاء ، دعونا ننظر الى الجانب الاخر وما يمكن ان يؤدي سقوط صنعاء من تحديات ومخاوف : اولا : حرص الحوثي من اول يوم داهم فيه صنعاء على عدم إسقاط الرئيس وعدم التعرض لمؤسسة الرئاسة والقصر الجمهوري وكثير من الوحدات العسكرية المحسوبة على الرئيس هادي والوية الاحتياط ( والذي لا زال كثير منها يدين بالولاء للرئيس السابق ونجله ) ، وهدفه من ذلك الإبقاء على هيكل الدولة الذي سيمكنه من حكم اليمن كاملا وليس اقليم الأغلبية الزيدية ، وتجنب الإطاحة بمؤسسات الرئاسة -مع قدرته على ذلك - وتدمير مؤسسات الدولة لأنه ليس لديه القدرة ( في الوقت الحالي على الأقل ) على إيجاد وإدارة مؤسسات حكومية بديلة باستثناء انشاء مؤسسات( أمنية وقضائية) بديلة اثبتت نجاحا في المناطق التي سيطر عليها سلفاً ، لعلمه بفساد المؤسسات الحكومية المماثلة ، فضلا عن عدم توفر الحاضنة الزيديه لجماعته في المناطق الوسطى والجنوبية من اليمن ، واكتفى بتوقيع اتفاق شراكة وسلام سيظل هشا في مواجهة رياح مزاجية المنتصر وتدخل الأطراف الإقليمية والدولية التي تسعى جاهدة لتغيير هذا الواقع المفاجئ.
ثانيا :لو سلّمنا القول بان اليمن قد استطاع الخروج من ربقة الوصاية السعودية الى حد ما وربما الامريكية أيضاً ، لكن ألا يعني ذلك دخوله في ربقة وصاية دول اخرى مثل ايران ؟؟ والمؤشرات التي توحي بحدوث ذلك كثيرة ، فالفرح والتهليل الإيراني لسقوط صنعاء لم يعد سراً ، كما ان التعاون العسكري والدعم اللوجستي الإيراني للجماعة خلال السنوات الماضية ، وتوثيق عرى الاتصال الديني المذهبي بين مرجعيات مرّان صعدة وقمّ طهران ، كل ذلك دلائل على عمق الصلة بين الجماعة وطهران ثالثا : سيطرة الحوثيين ( شيعة اليمن المتشددة ) على صنعاء ومرافق الدولة الحيوية سيزيد من إمكانية جرّ اليمن الى معادلة الصراع الطائفي الذي يجري بين مناطق واسعة من الشرق الأوسط كالعراق وسوريا ولبنان ، باعتبارها طرفا مستهدفا في النزاع ، ومن المتوقع استغلال القاعدة للسخط الشعبي المرافق لاستيلاء الحوثي على صنعاء للدخول في مواجهات عنيفة طويلة الأجل تحت مسميات مذهبية وطائفية في مناطق كثيرة في ارجاء البلاد.
رابعا : الحركة الحوثية بطبيعتها حركة شمولية عسكرية مذهبية تدعو الى سيادة السلالة وتمييز طبقات المجتمع ، حيث وهذا جوهر ما ترتكز عليه الامر الذي يجعل من إيمانها بالتعددية والشراكة الوطنية مناقضا لما تقوم عليه أصلا ، بمعنى انها لا تستطيع الحياة في بيئة مدنية ديمقراطية تقوم على التعددية ومشاركة جميع القوى الوطنية في بناء دولة المؤسسات والنظام والقانون ، بمعنى انها ستكون هي العائق الأكبر في تطبيق اتفاق الشراكة والسلام ولعل رفض الحوثيين لترشيح بن مبارك لرئاسة الوزراء لأكبر دليل على انهم سيكونون هم العقبة الكئود امام تطبيق اتفاق الشراكة والسلام. خامسا : كانت السعودية هي اللاعب الأكبر بالورقة اليمنية لعقود مضت لاعتبارات تخص التوازن الإقليمي والأمن القومي السعودي ، ولا زالت حتى الان ممسكة بكثير من خيوط التوازنات اليمنية المختلفة ، ولا تستطيع ان ترى نفسها فجأة قد فقدت ذلك كله ، فمن المرجح ان تقوم بدعم شخصيات جهوية او عسكرية او سياسية وفتح جبهات معارضه للحوثيين ، وقلب موازين القوى على الارض ، الامر الذي ينذر بعودة تفجر الأوضاع في اي لحظة ، وعودة شبح الانقسام والتشظي. سادسا : استيلاء الحوثي على صنعاء ومفاصل الدولة قوّى النزعة الانفصالية لفصيل كبير من أبناء الجنوب كان لا زال يؤمن بالوحدة قبل الاجتياح الحوثي لصنعاء ، الامر الذي سيرجح كفة المطالبين بالانفصال وتقرير المصير ، وهو الشئ الذي لن يلقى مقاومة ومعارضة من الحوثي نفسه الذي أكد في اكثر من خطاب بأنه مع حق تقرير المصير لشعب الجنوب. من ما سبق يبدو ان الوضع شائك ومعقد يحكمه حسابات محليه واقليميه ودوليه لكن ثقتنا بالله مطلقه ثم بالحكمة اليمانية الذي اثنى عليها المصطفى صلى الله عليه وسلم ، والتي اثبتت بالفعل مكانتها عبر الأزمان والعصور.