عندما كنا ندافع عن الاسلاميين (وهو مصطلح يشير الى أحزاب جماعة "الاخوان المسلمين" تحديداً أو هكذا يفترض)، فإننا كنا ندافع عن الديمقراطية، وعن أفضل السبل الممكنة لإنضاج التجربة وترسيخها، وتحقيق أهداف "الربيع الديمقراطي"، عن طريق دعم قوة سياسية فاعلة تستطيع موازنة ومواجهة قوة الأنظمة الساقطة المتربصة والممسكة بكل مفاصل المشهد القائم حتى بعد سقوطها. بينما وقع البعض، ممن ينتمون الى تيارات اليسار والليبرالية العربيين، في شرك العداء غير المعقلن مع الحركات الاسلامية التي بدت المستفيد الأكبر من حدث 2011، وهو ما وضعهم في خانة الشراكة، المباشرة أو غير المباشرة، مع مكونات أنظمة ما قبل الربيع والاسهام في انتكاسة التجربة، وما أعقبها من رِدة خطيرة لم تعد تستهدف الديمقراطية فقط، بل وصلت الى حد تهديد الأوطان بالتحلل، والعودة الى عصر ما قبل الدولة. في ذات الوقت، ولنفس السبب المذكور اعلاه، كان المدافعون هم الأعلى صوتاً في نقد التجربة الاسلامية وبيان أخطاءها، مع خطاب متعالٍ يركز على تفكيك الجذور المؤسسة لهذه الأخطاء، على العكس من الطرف الآخر الذي مضى في طريق لم يكن ليوصلنا الى نهاية غير هذه التي حصلنا عليها، معتمداً فكرة (العداء الايديولوجي) بدلاً عن (الخصومة السياسية)، منحدراً في خطابه البائس الى الهامش بترديده مقولات موغلة في السذاجة والسطحية، تدور معظمها حول (قناة الجزيرة)، والمؤامرة القطرية، وابتلاع الدولة، وبيعها (قصة بيع الاهرامات لقطر التي رددها الاعلام المصري خلال حكم مرسي)، وغير ذلك من المقولات الصبيانية، التي لم ينحصر تداولها على (العامة)، الواقعون دوماً تحت تأثير سلطة الأنظمة الساقطة وأدوات تأثيرها، بل تعدى الأمر لتكون هذه المقولات هي نقاط التأسيس في خطاب النخبة الاعلامية والثقافية في البلدان العربية خلال الاعوام الثلاثة الماضية، في مشهد يدل على مدى التصحر والضحالة التي وصلت اليه الحالة الثقافية والسياسية العربية!. المُحبط أن هؤلاء ما يزالوا مصرين على خطأهم، لأن المراجعة والاعتراف بالخطأ لا توجد في قاموسهم كونها تجرح نرجسيتهم المنتفخة!!؛ يصر هؤلاء على أن الهاوية التي وصلنا الى اليها كانت صنيعة الاسلاميين، ونتيجة أخطاءهم، الاسلاميون وحدهم.. وفقط!! ليس بوسع أحد المجادلة في ما يتعلق بأخطاء الاسلاميين، والكثير منها كانت أخطاء فادحة لا يمكن الدفاع عنها بأي حال، إنما إغفال الاسباب الموضوعية لهذه الاخطاء، هو الخطأ الحقيقي الذي ينتقص من قيمة وأهمية أي نقد موجه بسببها. وهنا سنستعرض بعض من تلك الاسباب التي نرى أنها كانت عوامل مباشرة وغير مباشرة في تلك الأخطاء التي وقعت فيها الحركات الاسلامية بعد الربيع العربي، مع التأكيد أن هدف هذا الاستعراض ليس التبرير (في زمن لم يعد هناك من أهمية لأي تبرير!)، وإنما الغرض هو التعريف وطرح وجهة نظر شخصية (ضمن إطار ما يدعى "تبرأة ذمة"). - إن تلك الأخطاء كانت أمر طبيعي، ومن لوازم أي مرحلة انتقالية، حيث أن أي مرحلة التي تعقب اسقاط أنظمة شمولية، أو أي أحداث كبرى بشكل عام، يصاحبها ارتفاع في سقف المطالب الشعبية على الصعيد الاقتصادي والحريات، ناهيك عن حالة عدم الاستقرار والانفلات الأمني صنيعة قوى الانظمة السابقة، يضاف الى ذلك الصراع السياسي والاجتماعي على صياغة توجهات المستقبل، كل هذا يجعل أي قوة سياسية تتزعم وتقود العمل السياسي في هذه اللحظة مرشحة لارتكاب الكثير من الأخطاء. - جهود الافشال المتعمدة التي مارستها قوى الأنظمة السابقة، والمتغولة في أجهزة الدولة وفي مؤسسات المال والاعلام، بالتآزر مع تحركات قوى الخارج التي رأت في صعود الاسلاميين، واستقرار دول الربيع العربي بما يتيح للتجربة الديمقراطية النضوج والاستمرارية، خطراً يهدد وجودها، ويزعزع استقرار انظمتها. - أسباب تتعلق بطبيعة الفكر والمنهج الاسلامي نفسه، مثل "رؤية العالم" في الفكر الاسلامي والقائمة على التقسيمات الثنائية والنهائية لاعتمادها على مفاهيم دينية لا تقبل الاجتزاء، وممارسة السياسية وفقاً لهذه المفاهيم الحدية التي لا تساعد على بناء التوافق الوطني المطلوب في مثل هذه اللحظة، وغيرها مما يطول المقام في تعدادها وشرحها. هذه الجزئية تحديداً ينضجها النقد، وتعززها وتزيد من صلابتها وخطرها الخصومة، والمحاصرة الايديولوجية، ولم يكن هناك من طريق لمعالجتها غير دفع التجربة الاسلامية في السلطة، لتستطيع هذه الحركات الانفكاك من سلبية التهويمات الشعاراتية التي انتجتها عقود من المعارضة المصحوبة بالقمع السلطوي، وقرون من الاستبداد والتخلف الحضاري الذي رزحت تحت نيره الأمة بأجمعها. - تغول الأنظمة السابقة في بنية الدولة وهيكل أجهزتها، وخصوصاً الجهاز الأمني، حتى صارت هي الدولة، يتوازى هذا مع اختراق عميق لبينة المجتمع وعلاقاته، وبنائها، على مدى أربعة عقود من حكمها، شبكة علاقات ومصالح تتمدد داخل عمق المجتمع، حتى وصل الأمر الى أن هذه الأنظمة كانت قد أعادت تشكيل الثقافة المجتمعية على النحو الذي يضمن لها استدامة البقاء، وقوة التأثير؛ ولم يكن من السهل معالجة هذا التشوه في ظرف أعوام قليلة، للانتقال بعدها الى وضع المجتمعات الحديثة، وتحقيق الديمقراطية المكتملة الاركان. - بنية المجتمع العربي نفسه، وطريقة التفكير السائدة، والتي ساعدت ظروف الانتقال من الدولة السلطانية الدينية الى الدولة السلطانية البوليسية على تجذرها وتنميتها، وهنا ستصادفنا حقائق صادمة فيما يتعلق بالمشكلة الثقافية التي تقف حاجزاً صلباً أمام أي مسعى حقيقي لاستنبات وتطوير قيم الدولة الحديثة والديمقراطية. فمن المزاوجة بين الدولة والسلطة وعدم الفصل بينهما، الى سيادة مفاهيم دولة العصور الوسطى (الوالي والرعية)، وعدم تجذر مفاهيم الدولة الحديثة القائمة على أساس (المواطنة / المواطن)، وليس انتهاءاً بتلك الجدلية بين حاجتي الحرية والأمن، والتي عادة ما يحسمها العرب لمصلحة الأمن بدون أي تردد (قياساً على تلك القاعدة الفقهية الكارثية: درئ المفسدة أولى من جلب المصلحة)، مع ان جلب المصلحة، الحقيقية، سيتضمن بالضرورة درئ المفسدة!. ليست المشكلة في كون الشخصية العربية دائماً ما تنحاز الى جانب الأمن على حساب الحرية، فتلك ربما تكون غريزة إنسانية، المشكلة تقع في تعريف الأمن بالنسبة للفرد العربي، والذي يقوم على أساس أن الأمن يعني، حصراً، عدم الوقوع تحت تهديد الحرب المباشرة، وما عدا ذلك من التهديدات التي تمس حياة الفرد بشكل يومي تبقى خارج اطار التفكير، باعتبارها "إبتلاء" ونتيجة للذنوب الشخصية!، ومن المهم الاشارة الى أن هذا التعريف، الذي لم يعد معمولاً به في أي مكان آخر من العالم الحديث. هذا التعريف العربي للأمن هو ما يجعل تهديد الحرب قائماً في كل لحظة، نتيجة لتغاضي الفرد عن نوع السلطة القائمة وممارساتها ما دامت توفر له الأمن (عن طريق القمع!). وما أوردناه في هذه الفقرة هو ما يشار اليه في مدونة الاستشراق ب"الاستثناء العربي"، والتي تم صكها كمسلمة نهائية تعني عدم قابلية المجتمعات العربية للتطور واعتماد مفاهيم الحداثة، ومن ضمنها مبدأ الديمقراطية اللازم لإدارة النزاعات الاجتماعية والسياسية، وتحقيق الاستقرار المطلوب لأي تنمية اقتصادية.
هذه الاسباب، والكثير غيرها مما لم يتم التطرق اليه، كانت أسباباً ذات تأثير حقيقي على أداء الحركات الاسلامية في السلطة أو في المشهد السياسي بعد 2011، وأسهمت الى حد كبير في تعويق تجربتها، وهو ما أنعكس بشكل خطير على أهداف الربيع العربي، ومن بعدها على فكرة الدولة والسلم الاجتماعي بشكل عام، وهو ما يتهدد الآن معظم بلدان الربيع العربي، إن لم يكن كلها التي تشهد بشكل عام انحداراً باتجاه هاوية التفكك، واندثار الدولة الوطنية بحدودها التي صنعها الاستعمار مطلع القرن الماضي، وصعود الدولة الطائفية على أنقاضها، وعلى جثث الملايين من ساكني هذا الجزء المعتم من العالم.
في النهاية.. فشل الاسلاميون نعم، لكن ما هو المنطق الذي يقف خلف عبارة (فشل الاسلاميون هو من أوصلنا الى هذه المرحلة)؟ّ! أليس فشل أي تيار أو قوة سياسية أمر طبيعي في أي تجربة سياسية، وفي التجربة الديمقراطية على وجه التحديد؟ فكيف يكون هذا الفشل هو السبب في سقوط الدولة وتشظي المجتمع؟!! وكيف تجاوزت أخطاء عامين (انتقاليين)، لم تكن "إسلامية" خالصة، كوارث أربعة عقود من الحكم الاستبدادي القاتل؟!! المشكلة الحقيقية تكمن في العقل الايديولوجي العربي، الذي لم ينتج بعد أسساً عامة تحكم الصراع السياسي وتجعله محصوراً في نطاق ضيق، أي في حدود السلطة وليس الدولة.