أجد نفسي محاصراً بسيل من المكالمات الهاتفية تؤرقني لكثرة قضاياها المؤلمة، تعرش في قلمي وقلبي معا.. التفت فلا أجد سوى مظاهر دولة رخوة كلما زادت ترهلا تمددت مشاكل مواطنيها وتفاقمت مأساة حياتهم لدرجة الكارثة.. عمدت إلى الكتابة لأزفر بقلمي تأوهات مكبوتة بألم يؤرقني، لجأت إلى الكتابة، أكتب لأشطب، وأشطب لأكتب.. ينتابني إحساس مرهف حيال كل القضايا النازفة.. تتقاطر في ذهني الصور.. تتربع في الذاكرة ما يشبه الوجع الموغل في الدروب المضنية.. القلم حائر على مفترق نفقين يصعب تجاوزهما بسهولة، وأنا مفعم بكل هذا الألم المسفوح على الأرصفة الخائرة، موزع بين خيارات مفتوحة على كل الاحتمالات المخيفة. بين أن أقترف ذنب الكتابة انتحاراً، أو أسارع إلى الاختباء في جور الصمت، تختلس أناملي القلم. فجأة تطل الصور اليومية. تحكي تفاصيلها المؤسفة. أشعر بإرهاق كهل يقف مرتعشاً خلف عربية في شارع خلفي بمدينة الحديدة. يرجو لقمة الخبز. ثمة صوت أنين ينبعث من عربية هرمة. وصوت أم تداعب طفليها بحنان بالغ الطعنة، تحضن طفلها بيد واليد الأخرى تستجدي عشرة ريالات. سائق سيارة يحدّق بسخرية في أشلائها ومشاعرها الممزقة. ملفات وشكاوى وحاجات كثيرة للناس في هذه المحافظة المعجونة بالحرمان والفاقة، أجدها في متناول يدي أعد رجلاً يهرول إلى الكهولة بطرح قضية رغبته في الزواج على جمعية خيرية.. ويحدثني أحدهم عن الأب الذي فارق أطفاله بالذبحة الصدرية وترك5 أيتام وأماً لم يكن لها قيمة كفن زوجها فتخر في اليوم الثاني جائعة عند بوابة منزلها، بعد أن توقف أطفالها من الخروج إلى الشارع ناهيك عن انقطاعهم عن المدرسة.. من ينزف معي كل هذا الوجع المجنون.. قلت لسائق التاكسي: صدقني لست متآمراً عليك وعلى التاكسي، فقط أردت أن أغلقه بلطف، لكن مشهد ذلك الطفل في الجولة دفعني لوصد البوابة بعنف مبرر.. مضيت غير آبه بكلمات مقذعة تسللت من فوهة ذلك الشاب العالق بأغنية بحبك يا حمار لسعد الصغير.. في زمن اختزلت الحمير الحب وتشيّأ الإنسان ليغدو الذئب هو الإنسان، وليس الدمع هو الإنسان كما يقول نزار بصوت كاظم الساهر.. ربما خانني توقيت الخروج هذا اليوم في هذه اللحظة المفعمة بالبؤس.. أيتها اللحظات المحدقة، لست أنا الهارب من واقعك حتى تقبضي علي متلبساً بعذابات المسحوقين في هذه المستعمرة.. هكذا قال لي أحدهم مرتبكاً وهو يحصي نظراتي.. كان في وضع غير لائق، وفي خلوة على الشاطئ العاري إلا من الموج والريح والصقيع والقبل الواجفة.. كنت أحدق بين فلة ل" الفندم" يحتضنها سور عملاق يفصل بينها وبين هؤلاء الطفارى العزل من كل شيء الحبيبة والمال والعلم والوظيفة والابتسامات والمستقبل والأحلام والأمنيات اللذيذة.. يمارس هؤلاء قرفهم في أجواء مثخنة بالقرف أيضاً، يغازلون لا تدري ماذا في لحظة كهذه، وربما اقتراف خطيئة.. يرونها نوعاً من الدعابة التي تجسد فراغ الدهشة المفسدة.. هكذا يحكي لي أحدهم بحماس، عن أدوار للصحافة والمساجد في إيقاف تدفق هذه الصور المهزلة في الشواطئ المنكوبة.. حدثني عن العرض المستباح في مجتمع يطلق عليه عبثاً محافظ.. لم يحدثني عن هوية هؤلاء والأسباب والدوافع التي ركنتهم إلى هذا الشاطئ الفقير.. يقولون لي إن هذا البهو تنزل فيه طائرة تقل فيه صاحب هذه الفلة والقصر المنيف.. وأنا أمعن في أفق يمتد حتى آخر نظرة طاعنة بالدهشة.. أبحر بأعين زرقاء في المياه الضافية بالملوحة المنثورة على جراحات الصيادين المطاردين العائدين بلا صيد ولا قوارب ولا قوت.. عراة من كل شيء الا من بعض شتائم تلقوها في سجون تيعوة الإرتيري.. يحصون مذلات ما قبل الترحيل.. وفي الشاطئ المقابل شيء من نزيف القيم يسفح من جرح عرينا المفتوح يسقط ما بقي من أسمال حكاياتنا المكدودة بعرق البؤس المتكوم هنا.. لتسقط معه أكذوبة المجتمع المحافظ، وخطاباتنا عن التقوى والزهد والعفاف تغدوا كلاما فائضا عن حاجة تختزلها عاهة الفقر.. لست ميتا أيها البحر المدغم بالحياة.. فالموت بجوار حياتك الزاخرة بالحياة والأحياء قوة ضئيلة.. بحسب سيد قطب.. لأن في أحشائك حياة دافقة بالحياة والأحياء.. تبصرون كيف أذوب في غيمة ذلك المساء المبتل بالرطوبة العانسة.. ربما يضحك عليكم شاعر نزق ليقول لكم أن للإسفلت عيونا لا تفارق حوافرنا وأضلا فنا الناشبة.. نفيء لضلال يسحق ما تبقى من أشلاء احتباسنا المفجع.. انا هنا لا زلت على الوعد والموعد.. انتظر الموجة والحبيبة العابقة والقبلة الآفلة.. بيد ان روائح المجاري وأدخنة الكهرباء ومخلفات البشر وشكوى الصيادين الدامعة بالحرمان والقهر القاتل لأطيان أحلامهم بدولة تقيهم لعنة القرصنة وروائح المجاري وأدخنة الكهرباء ومخلفات البشر وقيد حديدي أدمى قدمي طفل، وسواعد الطفولة السمراء المفتوحة على التسول، والأم المفترشة لقطع الكرتون على الأرصفة الساخنة مع أطفالها.. والشيخوخة التي تتسول بأيد مرتعشة، والمجانين الذين يموتون بأطعمة فاسدة بعد أن نهب الفاسدون أقواتهم، ومنظر القتل المتسارع الناتج عن غياب الأمن، ورعب الإرهاب الذي يجسد أمن دولة رخوة، وسلسلة الانهيار للعملة، والإدارة والتعليم والصحة..الخ.. تأخذني إلى مكان قصي عن إحساسي المرهف في هذا المساء. فمن أي الجهات سأعبر أحلامي حين أردتها كائنة للبزوغ! ومن أي الدروب ستفد بين يدي الأمنيات الجميلة! لست شاعراً.
أعترف أنني لا أمارس هذا البغاء، المسمى عبثا شعراً. لكن عفاريت الشعر تذوي في أم رأسي. يأتيني أحدهم بصورة طفل يبدو عليه هندام جديد يحمل على كاهله الغض، كيساً به مخلفات القناني البلاستيكية الفارغة، إنه نموذج للضحية الألف لواقع بلاستيكي يتشيأ.. يختزل هذه الطفولة المرهقة.. المتسللة من مقاعد الدراسة الى أرصفة وأسواق وشوارع إسمنتية المشاعر.. بينما قلة تشرب الأنخاب وتزفر بالخطابات وتزخر بالموارد وتنثرها على جراحاتنا المفتوحة لتزيدنا ألماً.. الماء الماء،المناديل المناديل..إنها حشرجة طفلة تقف موازية لحوافر السيارات في جولة زايد. " هبه " قالت إنها تشقى لأجل توفير اللقمة لأشقائها أيضا.. إنها صورة لحالات انكسارات جديدة تتقاطر بهيئة بركان يقذف بحمم الكارثة في وجوه الجميع.. قبل أن أقف مع تلامذتي في باحة المدرسة لتحية العلم الوطني .. يأتيني حسن البرعي بملف ابن عمه.. ملفا محشواً بكل الأحكام القاطعة والأوامر المبجلة الممهورة بأقلام القضاء والعدالة.. لكنه يدخل في تقليعة من مشارعة جديدة، باحثا عمن ينصفه من موظف في الداخلية، لم يتقدم أحد لمنحه حقا. ضاع الحق وبقيت عاهة ابن عمه دليل إدانة وحقيقة مرة. لموظف الداخلية الحق أن يفعل ما يشاء، وللمواطن ألف طعنة.. انتهى النشيد الوطني وحسن يروي لي قصته المؤلمة.. قصة طويلة من التعب في مشارعة وزارة الداخلية. لا تقرؤوني، أنا مجرد صحفي.. ألملم أوراقي في مقتبل العمر لأندس في نهايته الحائرة. أسكب ما بقي من أنداء عمري وأفتح صفحة قلبي للجميع.. لأمي الحبيبة ولأطفالي وحبيبتي وأهلي لأعيش معهم بنصف قلب.. ولكل من يأتي إلي بمأساته بقية أشلاء قلبي. أعبر قدري دون انحناء.. صدقوني لست مغرماً بالمأساة.. إنه شغب الموت الجبار, الموت واقفا وبأعين مفتوحة كما في تراجيديا إغريقية..لقد رأيتها البارحة. أحد المهمشين يموت بلا هوية شاخصاً بأعين مفتوحة يموت ساخرًا من الجميع ليغدو الموت بالنسبة له خياراً للراحة. تسحبه سيارة النجدة ويشيعه الجنود بأعصاب باردة ليقول لي أحدهم إنه أحد المهمشين لقد عثرنا عليه ميتاً، وليس له هوية.. إنني أضحك كثيراً ويعلو صوتي بالضحك أحيانا، لكن شر البلية ما يضحك. أضحك من مشهد سياسي مفعم بتبرير خيباتنا ومصائدنا ومصائبنا واعوجاجنا كله، نقرأ في تفاصيله مواقف جادة وتصريحات مبهررة، وما إن يصفو الجو، يعلق الجميع في جعبة الحاكم، تندغم المصالح.. تنطفئ كل تلك التصريحات، والحزبيون فجأة وبدون مقدمات، يبررون لنا اللعنات النازلة.. بينما القواعد وحدهم.. من يحصدون فضيحة هذا الخرط السياسي!.