كثر الحديث عن الحياد والمحايدين، وكالعادة تحول الأمر إلى حفلة تلغي كل الفروق وتكرس سوء الفهم والصدام في الظلام!! والمشكلة وإن كانت ترجع من جهة ما إلى عقلية "إما او.." وأيضا عقلية الاختيار بين الموجود.. السيء والأسوأ.. وطبعاً يوجد محايدين جديا وجديين، وهناك أسباب وخلفيات متعددة للحياد أو لما يظنونه كذلك، وإذا كان البعض يصدر عن مبادئ عامة لطلب السلام - حتى بدون شروطه!!- وكأن السياسة ليست أكثر من اختيارات ذاتية و ذوقية.. هناك أيضاً فئات وسطى هالها الحرب ولم تعد قادرة على الإجابة عن من هو؟ أو ما هو سبب أو أسباب الحرب وطبيعتها وشروطها؟
وهي تضع أمانيها في نهاية الحرب وعودة الإستقرار بأي ثمن حتى من دون توفر الحد الأدنى من شروطه!!، إضافة طبعاً إلى فئات وسطى كانت حياتها ماشية ومشاريعها سائرة وهي تريد أن تعود لممارسة حياتها الطبيعية ولا يهمها - أو لم يعد يهمها- من يحكم صالح، الحوثي، أو هادي أو أياً كان أو أي نظام؟ وهي عموما تستطيع أن تستكمل حياتها وتبحث عن ازدهارها حسب اعتقادها في كل الأحوال!!
ومهما كان رأينا في هؤلاء وفي أفكارهم، وفي من تخدم في نهاية المطاف، فإنه من غير المفيد الخلط بينهم وبين الأدوات الإعلامية والثقافية للتحالف الرجعي الصالحي الحوثي، ممن يزعمون الحياد، ويدّعون أن سبب دعمهم لتحالف صالح الحوثي هو العدوان السعودي - والجميع يعلم أنهم أدواته و مؤيدوه منذ كان مازال ينشد رضا السعودية أو حتى يحظى بدعمها!!- هؤلاء في الواقع يتبعون استراتيجية التحييد بعد فشل إستراتيجية الإستقطاب مع بداية غرق مشروع التحالف الرجعي في الوحل الذي هو أصله... وهو ما سنعود لنتحدث عنه.. مع ذلك ما مشكلتنا في هذه الهوجة للحديث عن الحياد و المحايدين؟
مشكلتنا أن هذا المنطق يضمر قصر المواقف الممكنة على "إمّا أو. .." إمّا أن تكون مع التحالف الرجعي الصالحي الحوثي الطائفي والمناطقي والسلالي، أو أن تكون مع التحالف السعودي الخليجي الرجعي بدوره... وكأن الخيار المتاح الوحيد هو الأمر المقضي بعد، وبين السيء والأسوأ؟!!
وهكذا فبدلا عن الانخراط في المقاومة الشعبية وتنظيمها وتسييسها والعمل على عودة الحراك الشعبي والجماهيري الثوري على أساس برنامج ثورة 11 فبراير 2011 ، من أجل نظام المشترك الوطني والاجتماعي والطبقي والجماهيري.. يصبح الممكن الوحيد هو الممكن المقضي لا الممكن الثوري!!
طبعاً أسباب ذلك كثيرة ومفهومة.. مع أنّي لا أستطيع أن أفهم كيف يصنّف البعض نفسه محايداً رغم أنّ موقفه معاد بصراحة كاملة ووضوح لتحالف صالح الحوثي!!وفي نفس الوقت معاد للحرب السعودية!! هل يظن هؤلاء أن بناء موقف، ومن ثم معسكر آخر ثالث مستحيل؟!
يبدو أن الأمر كذلك.. وهذا مفهوم بالنسبة للثقافة السياسية السائدة والتي تعتبر أنّ العمل السياسي مقصور على إعلان المواقف أو الإختيار بين ممكنات الواقع المقضي لا الإنخراط في الواقع لتغييره وبناء التنظيم الثوري الكفيل بتطوير الممكن وتوسيعه خصوصا في الظرف الثوري.. وبعيداً عن التعاطف مع (محايدين) حقيقيين - مع الاختلاف معهم - لما نالهم من إساءة دون داع.. فإنّ المهم هو محاولة تفكيك إستراتيجية التحييد والتي تحولت إلى صناعة للتحالف الرجعي بأسماء مختلفة مثل صناعة السلام!!والتي يشارك فيها أشخاص مثل علي البخيتي الذي لا يمكن إلا أن يعدّ أحد المجرمين المعدودين في حرب صالح الحوثي على الشعب اليمني- لا أدري هل لافتقار التحالف لكوادر مناسبة لهذا الدور أو فقط لصفات البخيتي الشخصية!! أو أشخاص مكرسين فقط للإساءة لكل من يبدو قادراً على كشف طبيعة الآليات التي يشتغل بها التحالف الرجعي والتشويش عليه الخ...
وفي الواقع إنّ الحوثي خصوصاً كان يراهن من البداية على استقطاب فئات واسعة خصوصا من النخب المدنية و المثقفة، ولعل ما ساعده على ذلك النزعة الإستئثارية التي ميّزت وتميّز تجمّع الإصلاح - لدرجة أني أعرف أساتذة جامعيين وقفوا ضمناً مع الحوثي لفترة من الفترات لأن الإصلاح وقف ضد حصولهم على مناصب معينة وكلنا يتذكر مهازل مفوضية الثورة الخ - إضافة إلى محاولة استغلال تاريخ العداء بين هذه الفئات و الإصلاح الذي كرّس جزءاً من تاريخه ونشاطه للتنكيل بها والتشنيع عليها - في مراحل سابقة على الأقل -.. وكان جوهر نشاط الذراع الإعلامي والمدني للحوثي وصالح فك اللقاء المشترك - والذي يمكن نقده من موقع ثوري أو تقدمي طبعاً..
وكان من نصيب بعض الكتاب البارزين، محاولة دفع الاشتراكي و الناصري للإلتحاق الكامل بالخط الحوثي - رأينا مثلا الهجوم على الاشتراكي مثلا باعتباره تابعا للإصلاح والمطالبة بتحالفات جديدة و طبعا مع الحوثي، كما بالاشادة بعبدالله نعمان كلما ابتعد عن الإصلاح ومهاجمته كلما ابتعد عن الحوثي..
والجميع يتذكر كتابات سامي غالب وقطاع من الكتاب المحسوبين على اليسار!!
رأينا كذلك الحملة المسعورة ضداً على ياسين سعيد نعمان بعد مرحلة التبجيل -المقالح والخيواني وسامي الخ - ومهما كان رأينا بسياسة ياسين أو آرئه، فسبب الحملة الأساس هو محاولة تقويض كل شخصية سياسية تمتلك حضوراً ومصداقية وشعبية.. استعداداً لظهور الشخصية الوحيدة العبقرية الرفيق المنقذ نصير الفقراء قائد الثورة السيد عبدالملك الحوثي!!- طبعاً يمكن نقد أداء ياسين وتقييمه موضوعياً على أسس وطنية وتقدمية وهذا أمر آخر.
وهذا في الواقع ما يفسر الموقف الحادّ والعنيف الذي أخذه أشخاص مثل المقالح والشهيد الخيواني من سامي غالب واتهامه بالمناطقيه فسامي لم يكن من المطلوب تحييدهم، بل كان من ضمن الأدوات لإنجاز التبشير بالقائد المخلّص الحوثي ودفع اليسار والقوميين للتحالف معه، لكنه ابتعد قليلا مع تعثّر المشروع وظهور المآلات المخيفة للمشروع الحوثي!!
وطبعاً ليس غريباً في الممارسة السياسية السائدة أن نشاهد كتّابا ينتقلون من الدوران في فلك هذه الإستراتيجية التي تختزل كل الشر في تجمّع الإصلاح وتدعو ضمنا للتّذيّل للحوثي.. إلى اعتبار محاولة إبعاد الشيخ المخلافي مؤامرة إماراتية على تعز واليمن في استبطان كامل لخطاب ومنطق الإصلاح!!
الطابع الإصلاحي للممارسة السياسية العاجز عن الفهم والعمل في ظروف البلاد والمنطقة والعالم، والسمة الانتهازية للعمل السياسي هي التي تفسر كيف انتقل من كانوا يعدّون أكثر الناس تحمسا للمشترك، بل من كانوا يٌتّهمون بذيليّتهم للإصلاح، إلى التفهم والتقارب والدعاية للتعايش مع الواقع المفروض بحراب الحوثيين ومدفعيتهم.
كلنا يذكر الهجوم العنيف الذي شنّه الخيواني والمقالح على الأستاذ الصراري على سبيل المثال واتهامه بالتبعية للإصلاح و حميد الأحمر.. فالصراري أيضاً كان مطلوباً منه أكثر من الحياد.. ورأينا الصراري بعد سقوط صنعاء من أنصار التقارب مع الحوثي.- الأستاذ علي كان يقدم صديقه علي البخيتي طوال 2011 باعتباره قيادي في شباب الاشتراكي والحال أنّه لا علاقة له من قريب أو بعيد، والبخيتي طبعاً لم يكن يتردّد في الزّعم بأنه عضو مكتب سياسي في الحزب كما أخبرتني ألفت الدبعي مثلاً!!
بينما وجّه الوزير واعد باذيب خطاباً حادّاً ضد شباب الحزب الاشتراكي اليمني الذين احتفلوا بعيد ثورة سبتمبر بعد أربعة أيام من سقوط صنعاء، وقادوا أول المظاهرات الاحتجاجية ضداً على سيطرة المليشيات الحوثية على العاصمة، كاتباً أنّ الحزب لن يسمح للأطفال برسم سياسته!! والحال أنه كانت هناك مشاورات للتشكيل الوزاري وكان همّ التوزير الذي بدا في يد الحوثي هو محرك الغضب ضد الأطفال... إلخ. هناك طبعاً ضرب من الانتهازية السياسية لبعض اللذين صعدوا إلى النخبة السياسية من الساحات دون أي خبرة سياسية جدية من أمثال بن مبارك وألفت الدبعي لأسباب تعود إلى خليط من الثقافة النيوليبرالية ومحاولة إرضاء السفارات والتموقع في الأماكن التي يعتقد أن ترضي هادي.
أما دعوات أمثال الأستاذ زيد الشامي وعبدالله العديني لإعادة التفاهم مع علي صالح والتي انتشرت قبل عام فهي إلى الانتهازية، تعبّر عن الذعر الذي أصاب قطاعات واسعة من الإصلاح الذي كان يعرف أنّ رأسه مطلوب.
اندلعت المقاومة الشعبية حتى قبل أن تسمى كذلك وطبعاً قبل أن تظهر أيّ مؤشرات للتدخل السعودي العسكري، قاد الطلبة والشباب مظاهرات شجاعة في صنعاء المستباحة، وشهدت تعز تعبئة شعبية وجماهيرية استثنائية ومظاهرات حاشدة.. ضد تحالف الحوثي وصالح، ولعب ضباط صغار أمثال الحمادي دوراً بارزاً في تنظيم قطاعات من الجيش ضداً على الحرب الصالحية الحوثية على الشعب - لا أحب أن أبدو متنبئاً ولا أحد يمكنه أن يعرف النتائج مسبقاً، لكني أظن أن الحمادي سجّل إسمه في تاريخ العسكرية الوطنية اليمنية وأنه سيلعب دوراً مهمّا في مستقبلها، والرجل في تصريحاته أكثر وعياً وشجاعة من السياسيين وأبعد عن حساباتهم -... فيما استطاعت تنظيمات اجتماعية مندمجة ومسيّسة كسر التحالف الرجعي في الضالع اعتماداً على عوامل ذاتية وشعبية أساساً.
ورغم انحطاط التيارات الثورية التاريخية وفشل ثورة 2011في إنجاز التنظيمات والقيادات الثورية، فإن المهمة تبقى الانخراط في المقاومة وتطويرها وفرض خط سياسي وطني وديمقراطي بأهداف وشعارات ثورة فبراير و جماهيرها الشعبية.. والفشل في ذلك أو الاستنكاف عنه سيجعل الكرة في ملعب التيارات الجهادية والرجعيات الهوياتية.
فبديل المقاومة الوطنية الديمقراطية لن يكون سوى شكل مشوّه ورجعي ومنحرف للمقاومة لا سلام ولا استسلام.
يذكر أصحاب استراتيجية التحييد أشياء مسلية من قبيل أنه كان من الممكن الاكتفاء ببعض المظاهرات عشان الحوثي وصالح يستحوا ويتوقفوا عن اغتصاب السلطة، لولا العدوان السعودي كما يخبرنا بذكاء كبير محمد عايش والذي كان ضمن الجهاز الدعائي للحوثي طوال الوقت - طبعاً الحوثي وصالح شيستحوا لأنه شيكون معنا بالمظاهرات!!بس لولا العدوان!!
هناك محايدون وهناك حتى مغفلون..انسوهم، ولتواجهوا إستراتيجية التّحييد!!!