محمد عبده سلام.. أحد أئمة وخطباء مساجد عدن، لم يقتل كحال كثير من أقرانه الذين اغتيلوا خلال ثلاثة أعوام في المدينة، لكنه يوشك ان ينهي عامه الثاني في سجون الإمارات وحلفائها في عدن مخفياً قسراً ومعتقلاً.. مطلع مارس الماضي، أمرت النيابة بالإفراج عن سلام، لكن الأمر نفذ بطريقة أخرى.. أعيد اعتقال سلام من داخل السجن، ونُقل إلى سجن التحالف في البريقة، الذي سبق أن زاره ومكث فيه لأشهر بداية مرحلة اعتقاله.
يعمل سلام إماماً وخطيباً لجامع معاذ بن جبل بمنطقة السيلة بالمنصورةبعدن، منذ أكثر من 15 عاماً، ونشط في مجال الإغاثة وحماية الأحياء خلال الحرب مع الحوثيين في عدن.. وبحسب إفادة بعض مرتادي مسجده، لم يكن سلام يتبنى خطاباً متطرفاً بل كان من دعاة الوحدة والتسامح والتعايش.
من المنزل إلى سجن شلال.. فجراً تواصل "المصدرأونلاين" مع معتقلين سابقين رافقوا محمد سلام، ومع عدد من أقاربه، ومعارفه، وبعضهم تمكنوا من زيارته بعدما نقل مؤخراً إلى سجن بير أحمد الجديد الذي يعتبر بمثابة السجن المركزي الثاني في عدن بعد سجن المنصورة، ويفترض أنه يخضع لإشراف النيابة.. ومنهم حصلنا على تفاصيل اعتقاله والتحقيق معه واعترافاته المنشورة. شاهد ايضا : خطباء وأئمة عدن.. من لم يُقتَل اغتيالاً قتلته سجون الإخفاء والتنكيل (هكذا فعلوا بسلّام)!
فجر 26 يونيو 2016، داهمت مجموعة أمنية تعرف بخلية المداهمات في مكافحة الإرهاب منزل محمد عبده سلام في منطقة السيلة بالمنصورة، واعتقلته واقتادته إلى سجن ملحق بمنزل شلال.. بالتوازي اعتقلت شخصاً آخر اسمه شكري السقاف من منزله في حي القاهرةبالمنصورة، واقتيد إلى ذات السجن.. في الأخبار برز اسما الرجلين كأعضاء خلية إرهابية متورطة في الهجوم الإرهابي على دار المسنين بعدن، الذي وقع مطلع مارس 2016 وأودى بحياة نحو 16 من نزلاء وحراسة الدار، بينهم 4 راهبات.
اعتراف تحت التعذيب المفرط وعلى موقع يوتيوب نشر أمن عدن مقاطع فيديو تتضمن اعترافات لمحمد عبده سلام وشكري السقاف.. يعترف فيها الأول أنه استفتي في قتل المشرفين على دار العجزة، لأنهم يقومون بتنصير الناس، وأنه افتى لهم بجواز قتلهم، ويعترف الثاني بأنه نفذ العملية بناءً على فتوى الأول.
أمضى محمد، ثلاثة أيام في سجن شلال، وفي اليوم الرابع نقل إلى سجن التحالف بالبريقة.. في سجن شلال، تعرض سلام من فوره لشتى صنوف التعذيب.. تم تعليقه من يديه إلى الأعلى لعدة ساعات، وانهال عليه الجنود الملثمون ضرباً بالعصي الخشبية والحديدية، والأسلاك، والركل في أجزاء متفرقة من جسمه.
سُلطت عليه كهرباء شديدة بفولتية مرتفعة في أعضاء حساسة من جسده.. بعد إنزاله جرى تعذيبه بطريقة الايهام بالغرق عدة مرات، بأن تم تغطية وجهه مستلقياً بقطعة قماش مع تثبيت رأسه وجسمه لمنع الحركة، ثم يصب الماء فوق وجهه ما يتسبب بانقطاع التنفس وشعور الشخص وكأنه يغرق في الماء جراء دخول الماء من فمه وأنفه.
سيناريو التهمة والاعتراف كانت الحصيلة أن رضخ محمد سلام تحت وطأة التعذيب لرغبة المعذبين، وسألهم بماذا يعترف.. فطلب منه الاعتراف بصلته بالهجوم على دار المسنين، وتم إملاء الاعتراف عليه وبأسماء الأشخاص الذين تواصلوا معه وطلبوا الفتوى، وتم توثيق تلك الاعترافات صوتاً وصورة..
اكتمل المشهد باعتراف شكري السقاف أنه تلقى الفتوى من محمد سلام بالهجوم على دار المسنين.. وينفي محمد سلام جملة وتفصيلاً أي معرفة سابقة له مع شكري السقاف، الذي تشير إفادات عدد من المعتقلين أنه قتل جراء التعذيب بعد إدلائه بإفادته أمام الكاميرا بأيام.
في اليوم الرابع، نقل محمد عبده سلام الذبحاني، إلى سجن التحالف في البريقة، ومكث هناك نحو اربعة أشهر.. بحسب معلوماتنا، لم يتعرض محمد سلام لأي تعذيب خاص طيلة أربعة أشهر قضاها في سجن التحالف، ولم يتم التحقيق معه.
المحققون الإماراتيون: فالك طيب طلب سلام الحديث مع الضباط الإماراتيين، وأبلغهم أنه يعمل خطيباً لمسجد معاذ على مدى 15 عاماً وطلب منهم التحقق بشكل جدي من جيرانه ومن الحارة ومن مرتادي مسجده، الذين يشهدون جميعاً بأنه لم يكن يعرف عنه أي نزعة تطرف أو تعصب ناهيك عن الحديث عن التعاون مع تنظيم القاعدة.. أبلغهم بتعرضه لتعذيب قاسٍ في سجن شلال، وأن اعترافاته كانت تحت التعذيب، لانقاذ نفسه من الموت، فكان الرد الذي يلقاه من الإماراتيين دوماً: "فالك طيب.. أمورك طيبة.. إن شاء الله خير"، لكنهم لم يفرجوا عنه.
ظل محمد عبده سلام في حالة إخفاء قسري على مدى 15 شهراً، وأسرته لا تعلم عنه شيئاً، أربعة أيام في سجن شلال، فأربعة أشهر في سجن التحالف، ونحو ستة عشر شهراً في سجن بير أحمد القديم والجديد.. خلال تلك الفترة أشيع لدى أسرته أنه تمت تصفيته، ما سبب لهم أوجاعاً نفسية كبيرة.
متأكدون من براءته.. لكن المشكلة في الفيديو خلال فترة تواجد سلام في سجن بير أحمد، زار السجن القيادي في المقاومة الجنوبية أيمن عسكر، بحكم علاقته القوية بإدارة السجن، والتقى عدداً من السجناء.. بحسب مصادرنا فقد التقى بمحمد سلام في السجن وتفاجأ من وجوده هناك، وأبلغه أن الاماراتيين عرفوا المنفذين الفعليين للهجوم على دار المسنين، وتم تسليمهم، وأبلغه أن خروجه من السجن "مسألة وقت فقط"..
منظمات حقوقية تابعت قضية سلام، وأبلغت أسرته أنها ناقشت قضيته مع مدير أمن عدن شلال شايع، وأن شلال أبلغهم أنهم قد تأكدوا من براءته، وأنه لا علاقة له باستمرار اعتقاله أو الإفراج عنه، وأن الأمر بيد الاماراتيين، وأنهم يقولون إن الوقت ليس مناسباً للافراج عنه، لأن ذلك يشكل إجراجاً لهم خصوصاً بعد نشر اعترافات محمد سلام على الانترنت، ويعتبرون الإفراج عن سلام يمثل مشكلة وإحراجاً لهم.
خلاف شخصي مع بن بريك.. وحصل "المصدرأونلاين" على معلومات تفيد أن محمد عبده سلام كان على خلاف شخصي مع قائد الحزام الأمني هاني بن بريك، وأن سلام كان يمنع أتباع بن بريك، خلال فترة الحرب وبعدها، من مداهمة منازل الناس الذين يعرفهم في حارته، وتنفيذ الاعتقالات العشوائية، كما كان يتعرض للتهديد بسبب عدم تبنيه دعوات الإنفصال في خطبه. وبحسب أقارب سلام، فإن ضباطاً في الأمن السياسي أبلغوهم، أنهم ظلوا يراقبون محمد سلام على مدى 8 سنوات مع عدد من أئمة وخطباء مساجد عدن، وأنهم لم يجدوا عليه أي تهمة أو ارتباط حزبي، وأنهم مستعدون للشهادة بذلك أمام المحكمة متى طلب منهم. وعلى مدى أشهر من الاعتقال نفذت أسرة سلام وأقاربها العديد من الفعاليات الاحتجاجية والإعتصامات أمام مجلس القضاء الأعلى، بشكل منفرد أو ضمن فعاليات رابطة أسر المختطفين والمخفيين قسرياً في عدن.
النيابة أمرت بالافراج.. فكان الإخفاء من جديد مطلع مارس الماضي، وقع رئيس ووكيل النيابة الجزائية المتخصصة بقضايا أمن الدولة بعدن أمر إفراج عن 10 سجناء في السجن المركزي 2 (سجن بئر أحمد)، وكان بينهم محمد عبده سلام، بعدما حققت معهم وتبين لها أن لا ملفات ولا تهم واضحة ولا أدلة ضدهم. لم يفرج عن سلام وفقاً لذلك الأمر، فالسجن لا يخضع فعلياً لسلطة النيابة والقضاء.. بعد نحو أسبوعين من صدور أمر الإفراج، جاءت قوة أمنية أخذت محمد عبده سلام من ذلك السجن ونقلته إلى معتقل آخر مجهول، اتضح لأسرته لاحقاً أنه أعيد مجدداً إلى سجن التحالف، ومن يومها انقطعت أخباره عن أسرته مجدداً. وتطالب أسرة سلام وأقاربه كما بقية أسر المعتقلين، بمحاكمة عادلة وإجراءات قانونية، لا أن يظل المعتقلون مرميين في السجون لأشهر دون أحكام وينقلونهم من سجن إلى آخر دون اتهام، وتحمل القيادة الاماراتية والجهات الأمنية الخاضعة لها، كامل المسؤولية عن سلامة محمد سلام.
تساؤلات عن مصير معتقل برأته النيابة تثير قصة إمام مسجد معاذ بن جبل تساؤلات كثيرة، تبدأ من النهاية.. رجل معتقل منذ عامين تقريباً، يحال إلى سجن نظامي ظاهرياً، يفترض فيه سلطة النيابة على كل من يحال إليه من المعتقلات الأخرى غير القانونية، مشفوعاً بملف اتهام، لاتخاذ اجراءات قانونية للإفراج عنه أو محاكمته.. وعندما لا تجد له النيابة له ملفاً ولا تهمة ولا دليلاً يدعو للإشتباه، تأمر بالإفراج عنه، علماً بأن النيابات المتخصصة بالإرهاب هي أكثر النيابات شدة في التعامل مع المضبوطين، إذا ما توفرت أدنى شبهة عليهم. وبعد صدور أمر الإفراج، وهو الإجراء القانوني الوحيد في القصة برمتها، والذي يضع نهاية لمتوالية من الانتهاكات والإجراءات غير القانونية بحق المعتقل، تأتي قوة من خارج السجن لتعتقل الرجل (البريء بأمر النيابة) من سجن نظامي لتمارس بحقه إخفاءً قسرياً مجدداً، بإعادته إلى سجن غير قانوني، أمضى فيه أشهراً سلفاً، ولم يجدوا خلالها له تهمة مقنعة لفتح ملف في النيابة.
مسؤولية الإمارات وحلفاؤها.. مذكرة أخرى بعثتها النيابة الجزائية إلى مدير أمن عدن شلال شايع، بتاريخ 1 إبريل، استفسرت النيابة عن استثناء سلام من قرار الإفراج، بحجة أن عليه قضية ومطلوب من إدارة الأمن، داعية إلى إرسال ملفه للنيابة إذا كان عليه أي قضية أخرى. كذلك خاطب وزير الداخلية أحمد الميسري قائد التحالف العربي في عدن، مطالباً إياه بتوجيه الجهات المعنية لديهم بالإفراج عن محمد عبده سلام وفقاً لتوجيهات النيابة. في إبريل الماضي، قرر المعتقلون في سجن بير أحمد تنفيذ الإضراب الثاني لهم للمطالبة بتحريك ملفاتهم والإفراج عنهم.. كالعادة جاء مسؤولون إماراتيون عن السجون، وكرروا ذات الحديث الذي أبلغوا السجناء - الذين مروا من معتقلاتهم غالبا - في الإضراب الأول "المشكلة في ربعكم المخزنين.. الحكومة اليمنية والنيابة هي المسؤولة عن تأخر ملفاتكم مو إحنا.. راح نتفاهم معهم ونطلب منهم يسرعوا في متابعة ملفاتكم والإفراج عن أي شخص النيابة تشوف أنه ما عليه تهمة واللي عليه تهمة ينحال للمحاكمة"..
لكن التعامل في قضية محمد عبده سلام تشير إلى أن المشكلة تكمن في الفيتو الإماراتي على المعتقلين، وأن الربع "المخزن" يقوم بدوره رغم كل القيود المفروضة على ممارسة النيابة لمهامها..
قضية محمد عبده سلام، تضع الإمارات وحلفاءها في عدن، في موقع المسؤولية الكاملة عن كل الانتهاكات التي يتعرض لها المعتقلون منذ اعتقالهم، وصولاً إلى رفض أوامر السلطات القضائية، والمؤسسات الشرعية، وتراكم عليهم ملفاً متكاملاً من الانتهاكات لحقوق الانسان وللقوانين والقضاء..
الامتثال لأوامر النيابة والأجهزة القضائية، هو المخرج الأنسب لحفظ ماء وجه كافة الجهات التي انتهكت حقوق هؤلاء الناس وكرامتهم وأهدرت أعواماً من أعمارهم في المعتقلات دون تهمة، غالباً، أكثر مما هو المخرج الأنسب لهؤلاء لاستعادة حريتهم وحقوقهم وكرامتهم المنتهكة.