إن المثقف اليمني اليوم خارج حسابات الزمن والمنطق، لقد أصبح لعنة من لعنات هذا الوطن الذي يتآكل في كل لحظة وحين، وذلك بفعل التآمر عليه - باعتباره مصدراً للقلق والإزعاج بالنسبة للسياسي – الذي أفضى إلى تهميشه وتحييده عن المشاركة في قضايا الوطن وأحداثه وتحولاته الكبرى، بل أضفى إلى صمته وعجزه على نحو يثير الشفقة والاستغراب معاً. وكثيراً ما يحاجج هذا المثقف وجوده الهامشي وارتفاع درجة صمته المنبئ باحتضاره، واقتراب موعد موته الحتمي بعنف السلطة السياسية وتعمدها إقصائه، وكذلك سيادة عادات القبيلة وأعرافها وقوة فاعليتها في تشكيل بنية المجتمع اليمني وتسيير أحداثه المصيرية، وهو في المقابل بلا قبيلة ولا سلطة ولا سند يتكئ عليه. قد يكون لحجته نسبة من الصحة، ولكنها نسبة ضئيلة لا ترقى إلى الحجة القاطعة، بل إنها أقرب إلى الحجة الداحضة، فهذه العادات والأعراف والتقاليد لا تتعارض مع سنن العلم والمعرفة والثقافة ولا تقف حجرة عثرة أمام سلطة المعرفة النافذة، بل إنها مرنة وقابلة للترويض، وهذا ما يؤكده التاريخ في صفحاته المتعاقبة، فقد كان الشعب اليمني أكثر احتفاءً والتزاماً بعاداته وأعرافه في عقود وقرون خلت، وكان للمثقف حضوره الفاعل، وله صولات وجولات في ميادين الثقافة والمعرفة والسياسة تجاوزت أحياناً حدود اليمن الجغرافية. فعلى سبيل المثال لو تأملنا واقع هذه العادات والأعراف في منتصف القرن العشرين وقبله وبعده بقليل، لوجدنا أنها كانت أكثر حيوية وقبولاً وتوغلاً في ذاكرة المجتمع، ومع ذلك لم تكن حجرة عثرة أمام المثقف، إذ استطاع أن يكون في واجهة الأحداث بل وربانها وباعث الطاقة والحيوية في حركتها، ولو أعدنا النظر قليلاً إلى الوراء لرأينا أن المثقفين بمختلف أهوائهم وتوجهاتهم هم من أشعلوا ثورة (1948م) ، وكانوا أكثر تضحية، ، فمنهم من حزت رقبته بالسيف (العلامة عبد الله بن أحمد الوزير، والشاعر زيد الموشكي، .....)، ومنهم من قضى جل شبابه وسني عمره في المعتقل السياسي (أحمد الشامي، محمد الفسيل، القاضي عبد الرحمن الإرياني، ...)، ومنهم من فر بجلده خارج الوطن ليذوق أصناف العذاب وويلات الاغتراب (الزبيري، أحمد محمد النعمان، ...). لقد كان المثقف حاضراً ومؤثراً في الواقع بفكره وشعره ونثره، وقد امتد حضوره وتأثيره إلى ثورة سبتمبر (1962م)، بل تضاعف دوره الإبداعي والثقافي والاجتماعي في السبعينيات ومطلع الثمانينات، حتى وإن كان خارج الظل السياسي، فصوته مسموع ووجوده مؤثر، ولعله في صناعة الفعل الثقافي والإنتاج الإبداعي كان أكثر حضوراً وفاعلية (المقالح، البردوني، عمر الجاوي، زيد مطيع دماج، أحمد محمد الشامي، محمد عبد الولي، عبد الله عبد الوهاب نعمان، محمد الشرفي......) ولكن فيما بعد شهد واقع المثقف اليمني تحولات سالبة، حيث بدأت عملية استهدافه ومضايقته وتهميشه شيئاً فشيئاً حتى أصبح في السنوات الأخيرة كأنه أعجاز نخل خاوية، وللأسف الشديد كان المثقف جزءاً أو أداة من أدوات عملية استهداف نفسه، بوعي منه أو بدون، فقد استُدرج بعضهم إلى خانة السياسي ليستعبد بالفتات وتلجم إرادته الحرة، حتى أصبح رهينة لا ينطق ولا يكتب إلا ما يملى عليه، أو ما يرضي ولي نعمته ويشبع رغباته ونزواته. ونتيجة لتعدد آليات عملية الاستهداف فقد ارتقى أو رقي بعض المثقفين درجات في السلطة السياسية؛ ليتحول بالمجاورة من مبدع ومثقف يحمل هموم الوطن وناسه البسطاء إلى سياسي مزيف وفاسد محترف بامتياز. أما الفئة الثالثة من المثقفين وهي الغالبية العظمي فقد تم تضييق الخناق عليهم وإقصائهم وتهميشهم بشتى الوسائل؛ وخاصة في الوظيفة ومصدر الرزق لتصبح هذه الفئة عاجزة وخانعة تبحث عن كسرة خبز تسد بها رمقها ورمق من تعول. لقد أثبتت أحداث (2011م) حقيقة هامشية المثقف اليمني، وإلى درجة توحي بعبثية وجوده وعدم جدواه في مختلف مستويات الحياة، فلم نسمع له صوتاً أو رأيا مثيراً وملفتاً للانتباه، رغم فضاعة الأحداث وتعدد المواقف وضخامة التهديد الفعلي للوطن وأمنه ووحدته، بل إن الفاجعة الكبرى تبدت من حالة تشظي كيان المثقفين وانحرافهم عن المبادئ والقيم، حيث تباينت الأراء والأفكار لتثبت حقيقة ارتهانهم لأرباب السياسة والجماعات الأصولية، بل إن المؤلم حقاً ارتهان بعض المثقفين لشيخ القبيلة والتنظير لجهله وتكبره وتصرفاته العبثية والعنصرية واللا وطنية. إن المثقف اليمني اليوم في ارتداد ونكوص تجاه واجباته نحو مجتمعه ووطنه، فمن المعلوم أن الكيان الوحيد الذي التئم شمله قبل الوحدة، وكان صوته وفعله واحداً هو كيان (اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين)، ولكننا اليوم وبعد أكثر من عشرين عاماً على الوحدة نسمع ونقرأ ونتابع نخبة كبيرة تستميت في تأسيس كيان أدبي وثقافي جديد له هويته الانفصالية، ولا شك في إنهم أنموذج حي لفقد الإرادة والارتهان للآخر. إن المثقف اليمني يسترزق اليوم من اختلاف النخب السياسية ومن الأحداث التي تمزق الوطن وتبيح دم أبنائه، فبدلاً من استعمال وعيه واستثمار ثقافته وإبداعه وتفعيل طاقاته في مجابهة الواقع وتعرية أخطائه والدفاع عن حقوق الضعفاء والمظلومين ومواجهة الانتهازيين من الساسة ومشائخ القبائل والنافذين، نجده يسايرهم في الاستغلال أو يداهنهم أو يؤثر السلامة فيصمت صمت الحجر. لقد تناسى المثقف اليمني أن الثقافة قيمة إبداعية وإنسانية وأخلاقية، وهو ما أدى إلى تراجع دوره ليصبح عنصراً هامشياً لا يلتفت إليه إلا في سياق يرتبط بشراء مصداقيته وتحييد إرادته وإماتة معارفه، وحينئذ يكون سبباً في خراب الوطن ومذكياً للآلام والأوجاع. إن التأمل أكثر في واقع النخبة المثقفة اليوم يزيد النفس حسرة وألماً، خاصة وأن المثقف الملتزم بقيم الأخلاق والمعرفة والمعول عليه في تغيير الواقع استسلم فكان أمام خيارين، إما أن يغادر الوطن ويدع مساوئه، وإما إن يصمت ويعتزل الحياة ليعيش في غربة داخلية قاتلة تقضي عليه بالتدريج. وهذه هي الحقيقة المؤلمة فالمئات بل الآلاف من المثقفين الأكاديميين في مختلف العلوم غادروا البلاد دون رجعة، وتركوها للسياسيين ومن والاهم من المثقفين الأصوليين والنفعيين الانتهازيين. إن قراءة الواقع أكثر يوحي بأن المثقف أصبح لعنة كبرى تطارد في كل حين ومكان، وأن مشهد لعبة استقطاب المثقف وتهميشه وإقصائه مستمرة بعنف، فالمثقف الحقيقي اليوم تغلق أمامه أبواب المؤسسات الإعلامية بمختلف أنواعها المرئية والمسموعة والمقروءة، لأنهم من جهة يخافون من خطابه وفكره ووعيه الثوري، ومن جهة ثانية لا يؤمنون بحرية الرأي والفكر وثقافة الاختلاف. وهكذا سيستمر المشهد طالما والمثقف الحقيقي والحر ارتضى لنفسه الاغتراب أو الانكفاء وبقي حائراً وخائفاً، فلا بد من مواجهة الحياة والواقع وكسر حاجز التوجس والرعب، وأن يكون شجاعاً في طرح أرائه وقناعاته، ومساهماً ومزاحماً في الأحداث من خلال النقد ورفض الاستبداد وكل المظاهر السلبية في المجتمع وتوعية الناس بقيمة الحرية والثورة في وجه المستبد، ولفت انتباههم إلى ما يحاك ضده من مؤامرات أو يمارس في حقهم من قمع وانتهاكات. إننا نبحث اليوم عن المثقف الحر والمتمرد على القهر والظلم والسائد والمألوف، المثقف الصادق مع نفسه ومع مجتمعه، المثقف غير المؤدلج أو المرتهن لليمين أو اليسار ....... إنها أمنية لا أرى لها علامةً، ولا أسمع عرافاً أو نبياً يبشر بها.