كثيرةٌ هي التناقضات والإرباكات والشطحات والشعارات الرنانة التي نعيشها في بيئتنا العربية عامة واليمنية على وجه الخصوص ؟! . بل إن كل تلك المفردات والتوصيفات السلبية تغزونا وتسيطر علينا في كافة مُمارسات ومجالات حياتنا ومستويات ودرجات سُلمنا الثقافي والاجتماعي والسياسي والإقتصادي و.. إلخ . إنها في إجمالها سلبيات إن دلت على شيءٍ ، فإنما تدُلُ على عدم إستقرار وإستيعاب وفهم الذات وقُدُراتها وإمكانياتها وأماكن قوتها وضعفها . كما أنها تدُل على شيزوفرينيا ( حالة إنفصام ) تلازم شخصيتنا وتسم خصوصية بيئتنا العربية واليمنية ؟! . الكل في هذه البيئة ينتقد ويشك في الكل .. والجميع مُتوجس من الجميع ومن المُستقبل ! .. والكل يُصارع ويُحارب الكل ! والكل مخطئٌ ومُصيب في نفس الوقت ! . وأزهارنا العربية التي اُريد لها أن تُزهر في واقعنا العربي ، كما حدث في الربيع العربي الذي إنطلق العام 2011م ، لم يلبث أن إنقلب - بفضل مُخلفات ورواسب هذه البيئة ومُتسلقيها وإنتهازييها وسيطرة القوى التقليدية قبل وبعد الربيع فيها ، وبسبب تراكماتها ومُمارساتها التاريخية البالية وعقليتها المُتحجرة - إلى كارثةٍ أفرزت إنحداراً في كافة المستويات والمجالات التنموية المأمولة . فصارت أزهار ربيعنا العربي المرجوا ذابلة ، وغصونه واهية ، ورائحة أزهاره بالتأكيد صارت تفوح بالموت والدماء وتفشي العنف وتنامي ظاهرة الارهاب ، وبروز مخاوف شبح حصول الحرب الأهلية ، وإنطلاق عمليات النزوح البشري داخليا وخارجيا ! . فياله من ربيع قاسٍ على المنطقة العربية وعلى آمال وأحلام المواطن العربي .. الذي حلُم بالتغيير الذي سينقله درجات أكثر على سُلم أحلامه في كافة المجالات الحياتية .. فإذا به يُسقطه أرضا عن درجة السُلم التي كان يقف عليها ؟! . تاريخيا ومنذ حوالي ( 3000 عام ) ، بحسب الكتب المُقدسة أيضا وهب الله كنعان ( أرض فلسطين ) لبني اسرائيل بقيادة رسول الله موسى (ع ) . وهو الرسول الذي معه وُلد بنو إسرائيل كأمة ذات كيان سياسي بعد قرابة أربعمائة من العبودية وأعمال السُخرة في مصر . وصارت إسرائيل بعد ذلك الوقت مملكة قويه قادها في فترات عصرها الذهبي ملوك كانوا أيضا أنبياء ورسلا كادأود وسليمان عليهما السلام . لم تلبث تلك المملكة الآخذة في الإتساع والترسخ وبسبب وقوعها في المخالفات الربانية أن تعرضت للهجوم على ايادي الآشوريين والبابليين وأخيرا الرومان الذين دمروا في العام ( 70 ميلادي ) الهيكل ومدينة أورشليم ( القدس ) وبتدميرهما إنهارت وتلاشت مملكة ودولة إسرائيل وتشتت شعب إسرائيل في الأمم . ظلت فكرة إعادة دولة ومملكة إسرائيل وجمع الشعب اليهودي المتناثر في الشتات هاجسا حاضرا عبر الحقب التاريخية المتعاقبة في العقل والنفسية اليهودية حتى تحقق ذلك بإعلان قيام دولة إسرائيل في القرن العشرين وبالتحديد في الخامس عشر من مايو 1948م . وبإعلان قيام دولة إسرائيل ، بدأ صراعٌ في منطقة الشرق الأوسط لم ينتهي حتى الآن بسبب ما رأه العرب أنه إغتصاب يهودي لأرض فلسطين . إستندت إسرائيل في تبرير نشأتها وقيامها إلى الحق التاريخي والوعود الآلهية لها في الكتب المُقدسة بأرض إسرائيل .. وما فعلوه في العام 1948 م كان بمثابة الإعلان عن إستعادة ذلك الحق . بينما رأى العرب أن إعلان قيام دولة إسرائيل ، هو إحتلال وإغتصاب لأرض فلسطين التي كانت تقطنها أكثرية عربية آنذاك . من الأمور التي دللت بها إسرائيل أيضا على أنهم أصحاب الأرض الأصليين هو حالة نزوح السكان العرب ومُغادرتهم فارين تاركين خلفهم مدنهم وبلداتهم وقراهم وممتلكاتهم مع بدء نشوء الصراع على أرض فلسطين بين اليهود والعرب . وهو ما مهد لاحقا لولادة مشكلة اللاجئين الفلسطينيين ، التي تُعد حتى الآن أصعب الملفات التي تحول دون التوصل إلى سلام شامل مع دولة إسرائيل . بينما صمد مجتمع اليشوف ( اليهود) والكيبوتسات( المستعمرات ) اليهودية على أرض فلسطين وقاوموا ولم يفروا أثناء الصراع وقيام الحرب مع العرب . لم يستطع العرب إستيعاب الظروف التاريخية والسياسية العالمية في حينها التي ساعدت اليهود في إعلان كيانهم السياسي الجديد ( دولة إسرائيل ) .. كما رفض العرب كل الحلول والوساطات الدولية بتقسيم الأرض كما جاء في القرار الأممي رقم ( 181 ) الصادر في العام 1947م ، والقاضي بإنشاء دولتين معا على أرض فلسطين عربية وأخرى يهودية . لكن في العام 1979م أدركت مصر الدولة العربية التي قادت الصراع العربي مع اليهود حقيقة الوجود اليهودي على أرض فلسطين وأعترفت بالكيان الإسرائيلي الناشئ من خلال قيامها بالتوقيع على مُعاهدة كامب ديفيد .. وتعرضت مصر بهذه المعاهدة والإعتراف لإنتقادات حادة ولقطيعة عربية ؟! وبعد أكثر من خمسين عاما من الصراع يتقدم العرب جميعا وعبر جامعتهم العربية في قمة بيروت بمبادرة السلام العربية في العام 2002 م الذي تصب في نهايتها بالإعتراف بدولة إسرائيل ؟! . أليس هذا هو التناقض والإرتباك !! . وبدل أن يتحول الفلسطينيون الى شعب مُشرد في الشتات بلا كيان ؟! ألم يمكن من الأفضل الأخذ بفرصة القرار الأممي ( 181 ) وإختطاف فُرصة إعتراف المجتمع الدولي بكيان دولة عربية على أرض فلسطين ؟! ويصبح الفلسطينيون حينها شعبا له دولة معترف بها دوليا منذ العام 1947م ؟! بدل ان يحصل الفلسطينيون بعد قرابة الستة عقود وبعد جُهد جهيد على توصيف دولة غير كاملة العضوية في الأممالمتحدة ؟!!. أليس هذا هو التناقض والإرتباك بعينه ؟!. في العام 2011م كانت المنطقة العربية مع موعد مع ( الربيع العربي ) الذي اُريد له خلف الكواليس أن يكون ربيعا لحركات الاسلام السياسي ويدفع بها الى سدة الحكم . إندفعت شعوب بلدان الربيع العربي بسبب المُعاناة من المُمارسات السلبية لأنظمة حكمها القائمة نحو هذا الربيع ، ولم تكن تُدرك ما يحمله ذاك الربيع في رحمه من مآسي ؟ ! . صحيح أن التغيير له ثمن يجب دفعه . وقد دفعت كثير من الشعوب ثمن خلاصها من طغاتها وتحررها من أنظمتها الدكتاتورية . هذا هو الوضع الطبيعي وهذا هو الثمن الذي يجب على كل الشعوب والمناضلين دفعه من أجل الإنعتاق من نير العبودية والتسلط والتخلص من قمع ومُصادرة الحريات وكسر حاجز الخوف والجمود وإيقاف العبث المُمنهج بالأرض والثروة والإنسان معا في تلك البلدان . لكن ما لم تُدركه شعوب الربيع العربي انها كانت مع موعد حكم وتسلُط جديد تقوده أشد الحركات الدينية السياسية راديكالية وإنغلاقا وجمودا ورفضا للآخر ؟! ومنذ ذلك الحين ونحن نعيش اغرب واشد الربائع إزهارا بالأزمات والاختناقات والضوائق المعيشية والانفلات الأمني والتراجع التنموي وتفشي ظاهرة العنف والارهاب ؟ . ولأننا من أقل الشعوب إنتباها واكثرها تأثُرا بالعاطفة الدينية ، سلمنا على حين غرة حاضرنا ومستقبلنا لحركات سياسية دينية هي الأشد فتكا في التسلط والإستبداد ومُصادرة الحريات وقمعها وأكثرها رفضا في الجوهر لمبادئ الدولة المدنية وبُعدا عن مبادئ الديمقراطية ، لكن هذه المرة بإسم الله ؟! أليس هذا هو الإرتباك والتناقض ؟! ثم على ماذا نتباكى ونتجادل بعد ذلك ؟ ومن نلوم ؟ !! .
وفي اليمن تكاتف المجتمع الدولي حتى لا يقع هذا البلد في مستنقع الحرب الأهلية الطاحنة . وانطلق الحوار الوطني الذي يُفترض له ان يؤسس لإعادة بنا الدولة اليمنية الحديثة وفق تطلعات الشعب اليمني المغبون حتى اللحظة . فالحوار إنتهت مدته منذ شهور ولازالت مخرجاته النهائية لم ترى النور لنُفاجأ بعدها بما عرف بوثيقة ( ابن عمر) الراعي الأممي لعملية الحوار الوطني والانتقال السلمي للسلطة في اليمن والتي عرفت بوثيقة ( بن عمر) لمعالجة القضية الجنوبية ، التي وصفها بعض المُحللين العرب بانها تؤسس لحرب المائة عام بين اليمنيين ؟ لما تحمله من متناقضات وتقسيمات تُهدد الوحدة النفسية والجغرافية لليمن وشعبه ؟ ! . ومع ذلك وقعت جميع القوى المُشاركة في الحوار الوطني على هذه الوثيقة ، ثم بدأت الأحزاب والتنظيمات السياسية وغيرها من القوى التي وقعت على الوثيقة بالتنصل من توقيعاتها ؟ ووصفت تواقيع اعضائها بأنها تصرفات فردية ؟ فهل هذ الكلام يُعقل ؟! ولماذا التوقيع من البداية ما دامت تلك الوثيقة لا تخدم اليمن وشعبه ؟ سواء كان الموقع بصفته الشخصية أو بصفته الحزبية ؟ !ولماذا هذا التراجع والتنصل والإخراج السيء من الأساس ؟! . على صعيد كل المستويات أضحينا أفرادا وجماعات وتنظيمات ودولا في البيئة العربية نعيش تناقضات يومية وفي أبسط التفاصيل .. نرفض الطائفية والمذهبية .. لكننا نقسم وندير مجتمعاتنا وعلاقاتنا على أساسها ؟! . نلعن الأنظمة السابقة ونصفها بكل قبيح .. لكن قبائحنا التي ننوي مُمارستها بعد ان صارت كعكة السلطة لنا ، تُعد من النوع المحمود ، لاسيما إذا ما كنا حُكاما بأمر الله وناطقين بإسمه ؟! . نؤكد صباحا ومساءا على حرية الرأي والعقيدة والدين .. ولكن السجون وفتاوى التكفير وإباحة الدم في الإنتظار ؟! . نتكلم عن السلام والمحبة .. ونحن نكفر ونلعن بعضنا بعضنا ؟! نتحدث عن المواطنة المتساوية.. لكن نحاول جاهدين امتهان تلك الشريحة المخالفة لوسطنا وخلفيتنا في الدين ، وننتقص من حقوقهم بإعتبارهم أهل ذمة ، ينبغي أن يُضيق عليهم حتى في الطُرق والمجالس ؟! نُغرد ليل نهار عن الأسرة المتماسكة والمثالية .. وأسرنا تمتلئ بالصراعات وعدم الإستقرار؟! نتحدث عن الجلوس الى الحوار .. والأيادي جاهزة على الزناد ؟! أليست مُمارساتنا و كل شئ في بيئتنا ينطق بالشيء وضده في نفس الوقت ؟! أليست تلك هي حالة عدم فهم الذات ، وعدم إستقرارها ؟! أليس كل شيء في بيئتنا أضحى حقل تجارب ساذج حتى الإنسان ؟!! اليست تلك هي الشيزوفرينيا التي نعيشها ونعيش بها في عالم العولمة ونحن لا ندرك ذلك ؟!!! وليحمي الله اليمن واهله .. آمين