يُروى أن رجُلين كانا يمشيان فرأيا سواداً بعيداً فقال أحدهما : ذاك غراب ؟ وقال الآخر : بل عنزة ؟ فلما اقتربا منه إذا به غراب طار هاربا .. فالتفت الأول نحو الثاني تعلو وجهه ابتسامة صواب رأيه أن ذاك السواد كان غرابا بالفعل . فأجابه الثاني بقوله : سُبحان الله عنزةٌ تطير ؟؟ هذه القصة كم تُكرر نفسها في الواقع يوميا وفي كل المجالات والعلاقات والأفعال على مستوى الأفراد والجماعات والمجتمعات والتنظيمات والأنظمة الحاكمة . ويُعد الرهان الأصعب نحو تصحيح المسار هو ادراك واعتراف الانسان بوجود عنزات كثيرة تطير في سماء تفكيره وسلوكه ونظرته نحو الآخرين وعلاقاته ومواقفه المتنوعة والمختلفة . وفي واقعنا اليمني الربيعي كانت أول عنزة رأيناها تطير في سماء ثورة الشباب المسروقة هو تحريف أدبياتها وتشويه بُعدها الاخلاقي وحرف تنظيرها وفعلها وسلوكها الثوري ، الذي أدى في مجموعه إلى ولادة شعار ( الثورة تجب ما قبلها ؟ ) والذي اتى بالفرج لتلك المافيا القبلية والعسكرية والدينية وسهل لها الوصول الى منصات الساحات واعتلائها والسيطرة عليها ..بل ان ابتكار هذا الشعار العبقري هو الذي قام بتصفير العداد بالفعل لتلك المافيا عن كل فسادها وجرائمها وعبثها . وبدل ان يُعطيها ذاك الشعار فرصة جديدة نحو إبداء حسن التوبة وتحولها الى عنصر بناء وإصلاح يُساهم في الحفاظ على مكتسبات الوطن ومؤسساته ووحدة لُحمة ابناءه ، في ظل فوضى عارمة تُوشك ان تأكل الاخضر واليابس وتهدد بتدمير امنه واستقراره وسلمه الاهلي وتمزيق نسيجه الاجتماعي .. إذا به يُعطيها حافزا جديدا نحو ارتكاب المزيد من العبث والجرائم والفساد .. وفي لحظة من تاريخ الانتصار لسلمية الثورة ، انطلق تحرير جبل ( الصمع ) كمُقدمة ضرورية لتحرير الأقصى وضمان لوقف الحفريات التي تهدد بسقوطه ؟ . أما تفجير حرب الحصبة بمآسيها تلك التي لا توصف ، من اجل حماية اثاث وأحجار منزل أولاد الشيخ الأحمر، وصون كبرياؤهم المقدس المُزيف ومنزلتهم الرفيعة المغرورة .. فإن ذلك كان يُعد انتصاراً للإرادة الثورية ، وحماية لبيت الأمة ، واستعادة للسيادة الوطنية المهدورة على طريق المطار ؟؟. بل لم يقف الأمر عند هذا الحد فقد قامت الساحات بإعطاء غيرها حق التفاوض عنها وتمثيلها ، وبالتالي شرعنت عن قصد أو غير قصد انحراف وسرقة ثورة التغيير السلمية وجردتها من كل احلامها الوردية في بناء غدٍ افضل ، بسبب تحولها إلى سرويس وجسر عبور من الوضع القائم إلى النظام القادم لتلك المافيا ؟ .
وفي ظل هذا التدهور الثوري ، صارت الثورة أزمة ، وولدت المبادرة الخليجية وآليتها المُزمنة كاعتراف رسمي من كل أطراف الأزمة والصراع على السلطة بعدم القدرة على الحسم على الأرض . وتشكلت حكومة وفاق وطني اقل ما يُمكن أن يُقال عنها انها حكومة إنقاذ وطني ، ينبغي أن يكون همها الأول رفع المعاناة وتخفيف اعباء الحياة المعيشية الصعبة عن اليمنيين والتي باتت لا تُطاق نتيجة الأزمة الخانقة . وبدل السعي نحو تحقيق الأمن ، وتوفير الخدمات الاساسية للمواطنين ، وتهيئة الأجواء لحل ومناقشة كافة مشاكل وقضايا الوطن ، وصياغة مستقبله المنشود دون شروط مسبقة .. إذ بنا نرى أن أطرافا في تلك الحكومة سعت لتحقيق مصالحها في المقام الأول . فقد أصابها جنون الإستحواذ على أكبر قدر ممكن من السلطة والثروة ، غير عابئة بإقصاء أو إلغاء أحد أو تفجير الخصومة والصراع مع أيا كان .. وأصبح التغني بأحوال المواطنين وقضايا الوطن مما يندرج تحت لا تسألوا عن أشياء إن تبدوا لكم تسؤكم ؟ .
بل إن اول عنزة طارت في سماء قرارات تلك الحكومة الفاسدة - والتي لا نعرف كيف كان سيلمس المواطن تأثيرها الفوري والمباشر في تخفيف أعباء الأزمة التي اثقلت كاهله - هو اعلان اجازة السبت بدلا عن الخميس ؟؟. وكان هذا يستدعي بلا شك رفع الشكر لحكومة الوفاق على اكتشافها المبكر لحل لغز مُعاناة اليمنيين وفك شفرة بؤسهم ومعرفة سر تعثرهم وتدهور احوالهم بالبحث عن أيام النحس والحظ في أيام اسبوعهم ؟ . وربما هذا ما يدفع الآن بمن يطالب بالغاء السبت وعودة الخميس ؟ . فهل حقا نخجل ونتوقف عن هذا العبث ونقدم لهذا الشعب المضحوك عليه والمغبون شيئا يُعتد به على صعيد أمنه وتنميته واستقراره .. أم أن حرب تقرير وتحديد أيام الدوام والإجازات هي كل ما يمتلكه الحكام السابقون والجدد !. كما أن الذي لا يستطيع أن يقرأ حوادث السبعين وكلية الشرطة والتحرير والمركز الثقافي بإب الارهابية وغيرها كإفراز طبيعي لاستمرار خطاب التحريض والتعبئة المنهجية السلبية المقصودة والموجهة ضد مؤسسة الجيش والأمن ومحاولة تفريغها من أداء دورها الوطني ، تحت عناوين مختلفة ، والذي لا تزال العديد من القوى والأطراف تنتهجه ، فلا شك أنه لا يُدرك العنزة قاتمة السواد التي تُحلق في سمائه الداكنة الاصل ؟ . وإذا كان كل ما ينشده الإنسان اليمني ، هو تحقيق الأمن والسلام والكفاية والحرية والكرامة والعدالة والتعايش السلمي ، فإن على كافة القوى في الساحة أن تكون على مستوى هذا الحُلم ؟؟ . وأن لا يظل هذا الحُلم في خطابها مُجرد عنزة تطير في فضاء التجاذبات والمُزايدات والمُكايدات والمُناكافات السياسية ، والحيلولة دون انتهائه إلى حالة من التبخر في سماء الصراع من أجل الإستئثار والإستحواذ على مزيد من السلطة والثروة والنفوذ ؟ . أما من لا يُدركون ولا يرون في افكارهم أو سلوكياتهم أو مواقفهم أي عنزات تطير .. فلا أمل لتصحيح المسار لديهم .. لأنهم قد اختاروا لأنفسهم أن يكونوا ممن ينطبق عليهم المثل القائل : مغني جنب أصنج ؟ . فهل حقا نستحي ونُحرر بلادنا من فضاء التجاذبات الإقليمية والدولية ونُدركها قبل أن تنزلق إلى مُستنقع الصراعات الطائفية والعرقية والمناطقية والفوضى العارمة قبل فوات الآوان ؟!. وليحمي الله اليمن وأهله .. آمين .