بين الحين والآخر، يخرج علينا ساسة اليمن بجديد يعيد تشكيل خريطة المعادلات سواء النظرية أو الفعلية على الأرض تشكيلاً يُحير الباحثين والمتابعين، ولكنه فى الأخير ينهك البلاد والعباد على نحو لم تعهده من قبل. كان هناك أمل محدود فى أن تنجح مباحثات الكويت التى بدأت فى 21 أبريل الماضى، وجرت أحداثها عبر عدة جولات فى التوصل إلى صيغة للتسوية السياسية بين ما يعرف بوفد الشرعية التى يمثلها الرئيس هادى عبدربه ووفد سلطة الانقلاب الحوثى وحليفه الأكبر الرئيس السابق على عبدالله صالح، الذى يسمى نفسه بالوفد الوطنى فى تناقض غريب مع حقيقة الأمر. لكن الأمل وهو كان ضعيفاً أصلاً، تبدد عملياً مع إعلان المبعوث الأممى إسماعيل ولد الشيخ أحمد فى السادس من أغسطس الحالى تعليق مباحثات الكويت إلى أجل غير مسمى والبدء بمشاورات مكوكية بين أطراف الصراع فى كل من صنعاء والرياض، على أمل أن تحل هذه المشاورات كافة العُقد التى ظهرت فى مباحثات الكويت، ثم يتم تحديد موعد آخر لمباحثات جديدة تخرج بالاتفاق النهائى. تعليق المباحثات أو المفاوضات هو التعبير الدبلوماسى عن الفشل، والذى يجسد اتساع الهوة بين الفرقاء المتصارعين وابتعاد احتمالات إيجاد نقاط مشتركة للخروج من دائرة الصراع العسكرى إلى إدارة سياسية وأمنية مشتركة ذات طابع سلمى بالأساس. ورغم قسوة هذا الفشل للمبعوث الأممى، ولكل الأطراف المعنية بالصراع اليمنى سواء المحلية أو الإقليمية أو الدولية، إلا أنه يمثل فرصة لمراجعة الكثير من القرارات التى اتخذت من قبل، لا سيما من قبل التحالف العربى الداعم للشرعية ولحكومة الرئيس هادى، كما أنه فرصة لإعادة النظر فى أسلوب تطبيق القرار الدولى 2216 (الصادر فى 2015) الذى يمثل مرجعية المباحثات الفاشلة، وفرصة ثالثة للنظر بإمعان فى التطور الدرامى المتمثل فى اتفاق الحوثيين والرئيس المخلوع صالح على تشكيل مجلس سياسى يدير شئون المناطق التى يسيطران عليها، خاصة فى محافظات الشمال بما فيها العاصمة صنعاء، وبما يمثل قيام سلطة أمر واقع جديد تختلف من حيث الجوهر والمسار والمضمون عن سلطة الأمر الواقع للانقلاب الحوثى والمتمثلة فى اللجان الثورية والإعلان الدستورى الحوثى. فبالنسبة للتحالف العربى، ورغم كل ما بذله من جهد عسكرى ودبلوماسى فائق من أجل إنهاك قوة ميليشيا الحوثى وقوات على صالح، ورغم التقدم على الأرض فى بعض المناطق والمحافظاتاليمنية لا سيما فى الجنوب والوسط، فما زال الحوثيون وصالح يمثلان رقماً صعباً، بل رقماً يزداد صعوبة وقدرة على المناورة والسيطرة على مفاصل ومواقع عديدة على الأرض، وبما يثير التساؤلات حول قدرة التحالف على حسم المعركة عسكرياً، وهو الشعار الذى طرح بعد إعلان فشل المباحثات الأخيرة، والغالب أنه ليس سوى رد فعل عاطفى ودعائى ليس إلا. ورغم أن المباحثات فى الكويت ومن قبل فى جنيف كانت تمثل قبولاً ضمنياً من فريق الشرعية بالفريق الآخر، لكنه قبول افترض القدرة على إلحاق الحوثيين وصالح بالشرعية وليس تقاسم السلطة والمسئوليات معها، وهو ما يفسر الإصرار، كما ظهر فى كل جولات المباحثات على أولوية الملف الأمنى المتمثل فى الانسحابات من المدن وتسليم السلاح، ثم بعد ذلك البحث فى الملف السياسى الذى يعنى المشاركة فى السلطة. وفى المقابل أصر الحوثيون وصالح على أن المطلوب هو حل شامل يدمج بين تسليم السلاح والانسحابات العسكرية وتشكيل حكومة جديدة أياً كان الاسم تعد بمثابة تقاسم صريح للسلطة، وبالتالى إنهاء دور ما يعرف بالحكومة الشرعية الراهنة. مثل هذا التناقض ارتبط أساساً بالتوازن على الأرض، أو بالصيغة التى انتهت إليها حتى اللحظة جهود التحالف العربى العسكرية وهى الفشل فى احتواء القدرات العسكرية للحوثيين وقوات صالح، واستمرار معادلة لا غالب ولا مغلوب وأن الجميع فى ورطة كبرى بما فيها التحالف العربى نفسه، والذى أدار الشق السياسى بشكل غريب لم يكن يعبر عن رؤية استراتيجية متماسكة، وهو ما ظهر فى العودة قبل ثمانية أشهر إلى اعتماد حزب الإصلاح الإخوانى كمكون أساسى فى الصراع واعتباره القوة المحلية التى سوف تقلب المعادلات لصالح حكومة الرئيس هادى. ويبدو أن ضم هذا الحزب إلى جهود الحكومة الشرعية لم يأت سوى بالمزيد من التعقيدات ولم يشكل تغييراً كبيراً يُذكر فى المعادلات العسكرية، وفى النهاية ثبت فشل هذا الأسلوب. وهو ما بدا واضحاً حين غلب الإصلاحيون على تشكيل وفد الشرعية فى الجولة الأخيرة من مباحثات الكويت. ويضاف إلى ذلك ما هو معروف بأن حركة الرئيس هادى تتسم بالبطء وقلة الحيلة وانتظار التعليمات وعدم القدرة على فرض أولويات يمنية، وهى انتقادات يقول بها مناصرو الشرعية قبل غيرهم، وفى الحقيقة تمثل هذه السمات إضافة للحوثيين ولعلى صالح الذى يبدو أكثر قدرة على المناورة وأكثر قدرة على توظيف ما لديه من أوراق وإمكانات. لكن الجانب الآخر أيضاً لا يخلو من تعقيدات يخلقها لنفسه ولغيره. وآخرها الإعلان عن تشكيل مجلس سياسى يدير شئون المناطق التى يسيطرون عليها. وفى الشكل هناك ضرب فى الصميم لجهود الأممالمتحدة والمبادرة الخليجية وفرض أمر واقع آخر. وفى المضمون هناك جديد لا يجب إغفاله، وأهم ما فيه أن هذا المجلس وإن كان غير واضح تماماً فى كيفية تقاسم أعباء الإدارة الثنائية بين الحوثيين وصالح وحلفائه، هو أنه ينهى عملياً دور اللجان الثورية الحوثية التى تسيطر على مجريات الأمور منذ الإعلان الدستورى الحوثى المرفوض من الجميع تقريباً، ويضع الرئيس صالح مرة أخرى فى الواجهة السياسية كرقم يصعب تجاوزه، وبشكل ما يمكن أن يكون هذا الرقم إحدى أدوات السيطرة على اندفاع وتسلط الحوثيين. وهنا تظهر إشكالية كيف يمكن الاستفادة من هذا الأمر، رغم كونه متناقضاً مع افتراض أن حكومة الشرعية لا بديل عنها؟ وأخيراً ما لم يتم حوار حقيقى بين مكونات التحالف العربى بكل شفافية ووضوح حول أسباب الفشل واعتماد استراتيجية تشاركية فى اتخاذ القرار تكون أكثر فاعلية والابتعاد عن هيمنة طرف بعينه على عمل التحالف سيظل الوضع بلا أفق سياسى، وستظل أزمة اليمن مصدر تهديد حقيقى للكثيرين من دول الإقليم. هذه المراجعة مطلوبة الآن وليس غداً، وعلى الجميع أن يعترف بمسئوليته تجاه ما جرى لا أن يدفن رأسه فى الرمال.