اليمنية تعلن عن رحلتين اسبوعيا بين عدن وعاصمة خليجية    بمعدل نمو 10.4%.. التمويل الإسلامي في عُمان يرتفع إلى 7.4 مليار ريال    صنعاء.. وقفة غاضبة لوزارة الصحة تنديداً بتدنيس المقدسات من قبل مرشح أمريكي    عشر سنوات من الوجع.. شهد تبحث عن أبيها المخفي في سجون الحوثي    نخب الإعاشة في الخارج.. خطاب تعالٍ يكشف انفصالًا عن معركة وطنهم    حراك أمريكي داخل أروقة الإدارة الأمريكية بشأن اليمن والجنوب    قانوني يشكك في دستورية مجلس القيادة ويتساءل: كيف يطالب العليمي بالدستور وهو بلا سند دستوري؟    رحيل الفنانة المصرية سمية الألفي عن 72 عاما    معلومات حول الجلطات في الشتاء وطرق الوقاية    عودة الأسعار للارتفاع يا حكومة    مع استمرار صراع ادوات المرتزقة..مدن الجنوب بلا خدمات    غدا الحرارة درجة في المرتفعات    عبد الرزاق حمد الله يعتزل اللعب دوليا بعد قيادة المغرب للتتويج بكأس العرب    عقوبات أمريكية على الإخوان المسلمين    بن حبتور يكشف عن السيناريو في المناطق الجنوبية والشرقية    البنجاك سيلات يستعرض الصعوبات التي تواجه الاتحاد    تدشين صرف إعاشة أسر الشهداء والمفقودين ب 3.6 مليارات ريال    وزير سابق: تراجع اهتمام واشنطن بالملف اليمني وتعيد النظر وفقا لوقائع الأرض    معركة السيادة في عصر الاستلاب الفكري"    تفجير تعز.. قيادات إصلاحية تربوية تدفع ثمن مواقفها الوطنية    خبير في الطقس: برد شديد رطب وأمطار متفرقة على عدد من المحافظات    هجوم جوي يستهدف قوات الانتقالي في حضرموت    ميرسك تعبر البحر الأحمر لأول مرة منذ عامين وتدرس عودة تدريجية    تقرير أممي: ثلثا اليمنيين يعانون انعدام الأمن الغذائي ومعدلات الجوع تسجل ذروة غير مسبوقة    تقرير أممي: تصعيد الانتقالي في حضرموت أجبر آلاف الأسر على الفرار والنزوح    قيادة السلطة المحلية بالبيضاء تنعي حاتم الخولاني مدير مديرية الصومعة    شرطة المرور تعلن إعفاء أكثر من ثلاثة ملايين مخالفة مرورية    قراءة تحليلية لنص "نور اللحجية" ل"أحمد سيف حاشد"    مهرجان ثقافي في الجزائر يبرز غنى الموسيقى الجنوبية    معارك ليست ضرورية الآن    أمطار شتوية غزيرة على الحديدة    الموسيقى الحية تخفف توتر حديثي الولادة داخل العناية المركزة    "المحرّمي" يُعزِّي في وفاة السفير محمد عبدالرحمن العبادي    الأرصاد تتوقع أمطارًا متفرقة على المرتفعات والهضاب والسواحل، وطقسًا باردًا إلى بارد نسبيًا    بالتزامن مع زيادة الضحايا.. مليشيا الحوثي تخفي لقاحات "داء الكلب" من مخازن الصحة بإب    الأوبئة تتفشى في غزة مع منع دخول الأدوية والشتاء القارس    "أسطوانة الغاز" مهمة شاقة تضاعف معاناة المواطنين في عدن    بنات الحاج أحمد عبدالله الشيباني يستصرخن القبائل والمشايخ وسلطات الدولة ووجاهات اليمن لرفع الظلم وإنصافهن من أخيهن عبدالكريم    بنات الحاج أحمد عبدالله الشيباني يستصرخن القبائل والمشايخ وسلطات الدولة ووجاهات اليمن لرفع الظلم وإنصافهن من أخيهن عبدالكريم    الحبيب الجفري يحذّر من تسييس الدين: الشرع ليس غطاءً لصراعات السياسة    الذهب يسجّل أعلى مستوى له في التاريخ    كأس ملك اسبانيا: تأهل اتلتيك بلباو وبيتيس لدور ال16    المغرب يتوج بطلاً لكأس العرب بانتصاره المثير على منتخب الاردن    انعقاد الاجتماع الفني لبطولة مديريات محافظة تعز - 2026 برعاية بنك الكريمي    الحرية للأستاذ أحمد النونو..    السبت .. انطلاق سباق الدراجات الهوائية لمسافة 62 كم بصنعاء    لملس والعاقل يدشنان مهرجان عدن الدولي للشعوب والتراث    بين الاعتزاز والانسلاخ: نداءُ الهوية في زمن التيه    شرطة أمانة العاصمة تكشف هوية الجناة والمجني عليهما في حادثة القتل بشارع خولان    اتحاد كرة القدم يعلن استكمال تحضيراته لانطلاق دوري الدرجة الثانية    روائية يمنية تفوز بجائزة أدبية في مصر    صباح عدني ثقيل    تحرير حضرموت: اللطمة التي أفقدت قوى الاحتلال صوابها    صباح المسيح الدجال:    مأرب.. السلطة المحلية تكرم فريق نادي السد لكرة القدم بمناسبة الصعود لدوري الدرجة الثانية    تأكيداً على عظمة ومكانة المرأة المسلمة.. مسيرات نسائية كبرى إحياء لذكرى ميلاد فاطمة الزهراء    جوهرة الكون وسيدة الفطرة    بدعم سعودي.. مشروع الاستجابة العاجلة لمكافحة الكوليرا يقدم خدماته ل 7,815 شخصا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عودة التسمير
نشر في المشهد اليمني يوم 30 - 09 - 2020

تذكرتُ وأنا أقرأ الأخبارَ المتتالية عن إغلاق الحوثيين لمصرف الكريمي في صنعاء نفس السلوك الذي مارسه آباؤهم من قبل، وقلت: "من شابَهَ أباه فما ظلم". فقط تختلف المصطلحات لاختلاف الأزمنة، لا أكثر. وقد شاع أيام الإمامة مصطلح "التسمير" كثيرا الذي مارسه كل إمام من الأئمة.
والتسمير يعني إغلاق دار أو منزل أو متجر أحد المواطنين أو الولاة من قبل الإمام بالمسامير والصفائح، بعد إخراج أهله منه، ثم مصادرة ما فيه لصالح الإمام.
وما لا يخفى على الجميع أن الأئمة الهادوية وحاشيتهم المقربين كانوا جشعين في جمع أموال الرعية وتحصيلها بأي وجه كان، سواء من الحلال أم من الحرام.
الأئمة عبر التاريخ يستوحشون من المال إذا تراكم في أيدي غيرهم، ولا يريدونه إلا لهم وحاشيتهم فقط، وثمة مسألة مهمة في تاريخ الإمامة يعرفها المتضلع في تاريخهم، وهي عملية الانتصاف في المحاكم بين المواطنين بعضهم البعض إذا اعتدى أحدهم على الآخر، ليكسبوا ود الناس وعاطفتهم، كنوع من الدعاية السياسية؛ أما إذا كان الاعتداء من قبل أمير أو سلالي منهم فعادة لا يتم إنصاف المجني عليه، كما هو الشأن اليوم تماما.
وسنستعرض هنا أحداثا عابرة، بما يسمح به الوقت للجنايات المالية التي مارسها الأئمة على الشعب.
حين وصل يحيى حسين الرسي إلى صنعاء صادر كثيرا من أموال أهلها بالقوة القاهرة، بحجة محاربة خصمه علي بن الفضل، وكذلك فعل من بعده أحمد بن سليمان، والذي رد على من لامَه على فعله بالقول: " والمروي المأثور عن الهَادي إلى الحَق عليه السَّلام أنه طلب أن يأخذَ من أهل صَنعاء ربع أموالهم ليدفع بها شرَّ ابن فضل ويجاهد في سَبيلِ الله.. ولا شك أن هَذا الذي كان يأخذه عليه السَّلام من أهلِ صَنعاء أكثر مما نأخذه أضْعافًا مُضاعفة. وهو عَليه السَّلام قدوتنا فيما نفعله؛ فالطَّاعن علينا هو طَاعن عليه..".. انظر: سيرة الإمَام أحمد بن سليمان، 303.
واسْتولى المطهر بن شرف الدين على أوقاف المدرسَة العَامريَّة برداع وغيرها من المدارس المنصوريَّة والمجاهديَّة وصَادر أملاكها لصالحه الشَّخصي وهِي الموقوفة على المدرسَة من أيام الطاهريين والرسُوليين، الذين أوقفوا الإقطاعيَّات المهولة للصَّالح العَام ولخدمة المرافق التعليميَّة والدينيَّة؛ بل لقد بلغ أنواع الوقف في عهدهم ثمانين نوعا، منها أوقاف للحُمر للعرجاء، وأوقاف للقطط الشَّاردة، ولحمَام الحرم. ولمن أخطأ من العبيد فكسر إناء سَيده. ولما جاء هذا الإمام الغشوم صادر كل شيء لمصالحه الشخصية.
وذكر الإمَامُ الشَّوكاني عن الإمَام الناصر محمد بن أحمد بن الحسن، ما نصه: "والحاصلُ أنه ملِكٌ من أكابر الملوك، كان يأخذ المالَ من الرعايا بلا تقدير... فلمَّا قَام أخذَ المالَ من حله وغيرِ حِله، فعظُمتْ دولتُه، وجلّت هيبتُه، وتمكنتْ سَطوتُه، وتكاثرت أجنادُه، وصَار بالملوك أشبَه منه بالخلفاء.. وكان سَفاكا للدماء بمجرد الظنون والشُّكوك".
يَروي المؤرخُ يحيى بن الحسين بن القاسم أنَّ أحمد بن الحسن حين توفي والده كان عمره تسعة عشر عامًا، فاتجَه إلى عمّه الحسين بن القاسم إلى ذمار، طالبًا منه أن يُقطعَه ولاية من الولايات، فعرض عليه عمُّه ولاية "وصاب" من اليَمَنِ الأسْفَل وهِي بِلادٌ خيِّرةٌ ومعطاءة، إلا أنَّ هَذا الشَّاب رفضَها قائلا: "هِي حقيرةٌ لا تقومُ بالحال، ولا يُنتفعُ بها في جميعِ الأعْمال". انظر: بهجة الزمن في تاريخ اليمن، 134.
فإذا كانت بِلادُ وصاب بكاملها "حقيرة" في نظر هَذا الشَّاب يومذاك "صار إمامًا فيما بعد" فما الذي يكفيْ غيره من الشُّيوخ والشُّبان والأمراء وأتباعِهم؟!
ويروي أيضا أن أخَاه عز الإِسْلام محمد بن الحسين أخبره أنه لما وصَل إلى حضرة الإمَام المتوكل على الله إسماعيل إلى "ضَوران" في أيَّامه الأولى أفاده أنه لا يجدُ غير الخمسين الحرف، ولم يأته من البلاد شيء، وأنه لا يجد الصَّرف؛ أمَّا بعد أن حَكم وملك فقد ثَرى وأثرى! وكان له من المخا لوحدها نصف عائداتها أيام تولية محمد بن الحسن؛ أمَّا بعد وفاته فقد أصبحت كاملة له. ويذكر البعض أن السيد حسن الجرموزي جاء إلى الإمَامِ بمحصول الموسِم يُقال فوق مئة حمل من البز والدَّراهم. وحين دخل أحمد بن الحسن عدن بجيشه أيام الإمَام المتوكل ملَّكه الإمَام إقطاعات كانت للأمير عبد القادر صَاحِب خنفر، وجعل له الربع من المَنَاطِق التي فتحها.! انظر: بهجة الزمن في تاريخ اليمن سابق، 143[1]
لهذا خاطب العلامة ابن الأمير أئمة عصره شعرا في قصيدة مطولة، ومنها:
خراجِيَّةً صَيَّرتمُ الأرضَ كلها وضمنتم العمال شر المعاشر
لذاك الرعايا في البلاد تفرقت وفارقت الأوطان خوف العساكر
وقد رضيت بالعُشْرِ من مالها لها وتسعة أعشار تصير لعاشر
فلم تقنعوا حتى أخذتم جميع ما حوتْه وما قد أحرزت من ذخائر
وقد استعمل بعضُ الأئمة عمالا وقادة جند أحباشا وأيضا من العبيد، وسهلوا لهم كثيرا من النهب والسلب خلال فترة ولايتهم؛ وفي نهايتها كان هؤلاء الأئمة يعمدون إلى "تسمير" دورهم ثم مصادرة ما جمعوه خلال فترات ولايتهم كاملا لصالحهم الشخصي، وذلك لضعف اعتراضهم وضعف شوكتهم، خلافا للأمراء من الأسرة الحاكمة الذين يستعصي مواجهتهم غالبا. كما فعل الإمام المهدي عباس مع الأمير سَعد الذي تم تعيينه عاملا للواء الحديدة، وقَدْ كان عبدًا لدى العامل يحيى العلفي، ثم عَاملا لريمة بعد ذلك، ورغم اشتهاره بالشَّجاعة والسَّخاء إلا أنه اشتُهر أيضًا بالخمرة والإفراط فيها.
واستملك هذا الإمام بالاستحواذ والاحتيال غيلين شهيرين بصنعاء، وهما الغيل الأسْود وغيل البرمكي، والأخيرُ أحدثه محمد بن خالد البرمكي والي الرشيد على صَنعاء حينها، سنة 183ه، للأهالي من المال العَام، إلا أن الإمَام المهدي قد استحوذ عليه بإصْلاحه وإعادة اسْتخراجِه، ثم ادعى أن نفقةَ هَذا الاسْتصلاح من حسابه الخاص، وليس من المال العام، وثار بشأنه لغطٌ واسعٌ وجدلٌ كبيرٌ بين الخاصَّة والعامَّة، وعارضَ ذلك بشدة الفقيه علي بن عبدالله العَمْري، المسؤول عن استخراج هذين الغيلين، الأمر الذي جعل الإمَام يدخله السِّجن، ثم يعمد إلى "تسمير" داره ومصادرة أملاكه الخاصَّة، وقَدْ بقي في سِجنه حتى مات سنة 1183ه. انظر: البدر الطالع للشوكاني، 168/2.
ليس الإمام المهدي من "اسْتأمر" العبيدَ و"استعملهم" فقط؛ بل أئمةٌ آخرونَ منهم الإمَام المنصور علي نجل المهدي عباس أيضا من بعده، فقد كان الأميرُ "مرجان الصنعاني" أميرًا في جيشِ المنصور، وقَدْ عَزله عن منصبِه بعد أن قَام بضربِه في بلاطِه، صبيحةَ يوم عيد الفطر من العَام 1196ه، ثم أمرَ بحبسه ومصادرة أمْواله، حين عَلم الإمَامُ أن الأميرَ أخْفى عليْه مقدارًا من الأمْوال التي كلفه بِمُصَادرتها على خَازن الحُبوب في جِبلة.
ومن أشهر أمراء الإمَام المنصور من العبيد: الأمير فيروز، والنقيب ريحان، والأمير سرور، والنقيب جوهر، وسعد يحي، ومحمد ذو الفقار، ومحمد ذرحان، وسعد المنصور، وفرحان الماس، وسندرس، ومحمد وفدالله وغيرهم، وجميع هؤلاء كانوا أمراء يجمعون الأموال من الرعية ثم يؤدونها كاملة إلى الإمام، مكتفين بشرف الوصول إلى المنصب.
وكان الأمير "عنبر" عَاملا للإمام المنصور على ولاية حُبيش، ثم العدين، ومنهما جمعَ أموالا طائلة، فطمعَ الإمَامُ بنصفها، فرفض الأمير عنبر أن يعطيَه منها شيئًا، الأمر الذي أغضبَ الإمَامَ عليْه كثيرًا، فقام بتعزيره أولا؛ حيثُ ربطه إلى نافذة دار الفُتوح، وهو عُريان، ثم أمر بضربه وحبسِه مدة شَهرٍ في مكان تُجمع فيه قاذوراتُ وفضلات حمَّام القصْر. انظر: الأوضاع السياسية الداخلية لليمن، 86.
ولم تقتصرْ تصرفاتُه هَذِه على المُسلِميْن فقط؛ بل أيضًا اليهود "الذميين" .. فاتخذ ضدَّهم سِلسلةً من الإجراءات العقابيَّة القاسِية وألزمهم بدفع نصفِ محصولاتهم، ثم صَادر أموالهم كاملة في آخر حياته، وكان اليهود ممسكين بنسبة كبيرة من التجارة كما هو معهود عنهم، ونفس الحال أيضا مارسه ابنه من بعده، كما فعل ذلك قبلهما الإمام المهدي محمد بن المهدي أحمد صاحب المواهب. وفعلها أئمة آخرون بحق اليهود والبانيان "اليهود" فبين كل فترة وأخرى كان الأئمة يهاجمون محلاتهم ثم "يسمرونها" تمهيدا للمصادرة النهائية.
ومن ضمن سَادية الإمَامِ يحيى وعنصريتِه أن حاربَ التجارَ من أبناء اليَمَنِ الأسْفَل "الشَّوافع" حسب تعبير الكُتَّاب الأجانب الذي كتبوا عن تاريخ تلك المرحلة واحتكرها على نفسِه وبعض شُركائه، على الرغم من عَراقة هَؤلاء التجار في هَذِه المهنة، لارتباطهم بالموانئ التي تقع في مناطقهم، ولارتباط التجارة أيضًا بالروح السِّلميَّة نفسِها لدى هَذِه البيئة وذاك المُجتَمع الذي يمقت الحروبَ وثقافتها، ويحترم التجارة والعمل. فقد صَادر تجارة هَؤلاء وشاركَ البعضَ الآخر تجارتَهم بلا وجه حق، مُعينا عليهم عُمَّالا من ذويه ومن حَاشِيته، يمارسون بدورهم نهبًا وسَطوا لا يقل وحشية عن نهب وسَطوة الإمَام نفسِه، بصورة مستفزة، فَخلقَ بهذا السُّلوك تذمرًا واسعًا، مجسدًا الطائفيَّة في أبشعِ صُورها وأزرى مَظاهرها. انظر: ثورة 1948م، الميلاد والمسيرة والمؤثرات، مركز الدراسات والبحوث اليمني، "مجموعة باحثين وكتاب" الطبعة الثانية: 2004م. 259.
تقول المؤرخة والكاتبة الروسية إيلينا جولوبوفسكايا ، المهتمة بالتاريخ السِّيَاسِي اليَمني: "وقاسَ التُّجار اليمنيون، باستثناء مَجموعة صغيرة، مقربةٍ من الإمَام من الظلم الملكي الإقطاعي الذي أناخ عليهم، وزُوحم متوسِّطو وصغار التجار في أكثر الصَّفقات التجارية المُربحة. كما احتكر الإمَامُ والمحيطون به الفروع المربحة في التجارة الخارجيَّة، مع الاحتفاظ التقليدي الاصْطناعي بأشْكال الأنماط الاقتصاديَّة. إنَّ كلَّ هَذا قلَّص مَجَال نشاط البرجوازية الناشِئة، وكان لغياب الضَّمانات والحريات الشَّخْصِيَّةِ والممتلكات للتجار أن شَدَّد الصُّعوبات، وحال دون نمو التجارة الخارجيَّة، وأدى هَذا إلى أن يتجه كبار التجار إلى أن يضعوا رؤوس أمْوالهم في بنوك الخارج، وإن تسربت رسَاميل في بعض الحالات المحصورة في حدود ضَيقة إلى التراكم الداخلي، مما ضَاعف بشكل أكبر نقص المواد اللازمة لنمو البلد الاقتصَادي؛ إذ إنَّ التجار لم يرسلوا النقود إلى الخارج فقط؛ بل إن أغلبَهم تركوا البلاد، وذهبوا إلى الخارج في هجرات طويلة. وفي المهجر اشتركوا بالنشاط التجاري، ولم يَعدْ منهم إلى الوَطَنِ إلا القليلُ عند الشَّيخُوخة". انظر: ثورة 26 سبتمبر في اليمن، إيلينا جولوبوفسكايا، دار ابن خلدون، بيروت، ط:1، 1982م، 126.
وقد مَنع الإمَامُ يحيى كلَّ التجار أن يغادروا إلى الخارج، عَدا الشَّيْخ علي يحيى الهمداني لمكانته الخاصَّة من الإمام، وسَمح مؤخرًا بتأسيس شَركة إيطاليَّة؛ لكنه كان أحد كبار المسَاهمين فيها، وذلك بمبلغ خمسمئة ألف ريال، كانت أرباحُها كبيرة. انظر: الطريق إلى الحرية، العزي صالح السنيدار، 73.
أما عن عَملياتِ النَّهب والسَّطو الأخرى التي كان الإمَامُ وعُمَّاله يمارسونَها على الرعيَّة، فلا تقل وحشيَّة وعبثيَّة عن هذه، وقَدْ لخصَها البردوني بقوله: "كان الإمَام يحيى لا ينقطعُ عن قريةٍ أو منطقةٍ إلا مدة قَصيرة، فقد كان مأموروه وجنودُه يمسحونَ البلاد طُولا وعَرضًا، يتحسسُون ما يجري، ويتحصَّلون ثمرة ما ينبتُ وما يتحرك، يأتي المُخمّنُ عند بزوغ الثَّمرة، يليه القبَّاضُ عند حَصادها، يليه الكاشِفُ على القبَّاض، يَليه العَسكريُّ لتحصيلِ البَواقي، يتبعُه عَدَّادُ المواشي، ثم "مثمّر" الخضر والفواكه، فَيدوم اتصالُ الإمَامِ بالشَّعبِ على طِيلة العَام عن طَريْقِ المأمورين والعَساكر، ويزيد اتصَاله أعنف إذا نجمتْ أحداثٌ واحتدمَ شِجار..". انظر: قضايا يمنية، عبدالله البردوني، ط:5، 96م، 62. وذكر أيضا في اليمن الجمهوري أن الإمَام يحيى كان يبيع عمالة العدين في إب بستمئة ريال، وكان يبيع عمالة كسمة بريمة بخمسمئة ريال. وهاتان المنطقتان من أخصب مناطق اليمن.
ذكر المناضل اللواء يحيى مصلح مهدي أن مقدار الزكاة في رَيْمَة أيام الإمَام أحمد وصل إلى مليون ريال فرانصي "ماريا تريزا" سنويا، وكان فيها ألف وخمسمئة جندي إمامي مقيمون بصفة دائمة لجباية الأموال بالحق وبالباطل. وذكر أيضا قصة معبِّرة تستحق الوقوف عندها، وهِي أن عامل الإمَام يومها شايف زهرة، كان يتعسف النَّاس ويظلمهم ويفرض عليهم من الضرائب والزكوات مبالغ كبيرة هِي فوق الحَق المقرر، وكان كلما أتى إليه النَّاس لمراجعته، يقول: "إلى ذمتي هذي زيدوا" ويشير بيده إلى صفحة عنقه، وبعد فترة أصيب هَذا العامل بسرطان في عنقه! أنظر: شاهد على الحركة الوطنية، يحيى مصلح مهدي، سيرته ونضاله. مركز عبادي للدراسات والنشر، ط:2، 2011م، 64.
وقد ترتَّب على هَذِه السِّيَاسَةِ التي اتبعتْها الإِمَامَةُ بحق المزارعين والفلاحين من أبْناء اليَمَنِ الأسْفَلِ عدةُ نتائج؛ حيثُ أدتْ إلى هجرةِ كثيرٍ من النَّاس فرارًا من الظلم، ومن مُلاحقة عَساكر الأئمَّةِ لهم، مع ما يترتبُ على الهجرة نفسِها أيامها من المخاطر الجمَّة؛ إذ لم تكنْ طُرق الهجرة والاغتراب مؤمَّنة كما هو الشَّأن اليَوم، ولم تكن وسائل النقل أيضًا متوفرة، ولم تكن حُقوق المغترب مكفولة في دول الهجرة، فكان يتعرضُ بعضُهم لبعض التعسف والضَّيم، وإن كان أقلَّ مما يتعرض له في بلده من عَساكر الإمَامَة. ولطالما فُقِد الكثيرُ، وتاه آخرونَ وقضوا نحبَهم في بلدانِ المهجر وقَدْ انقطعوا عن أهْلهم وذويهم، فالهجرةُ يومها ضربُ من المخاطرة بالنفس وتقحُّم الشَّدائد. وقد أشارت إلى هذه الحال قصيدة الشاعر الغنائي الدكتور/ الدكاترة: سعيد الشيباني التي غناها الفنان المرشدي، أواخر خمسينيات القرن الماضي، ومطلعها: يا نجم يا سامر فوق المصلى، وفي آخرها يقول:
هجرتني والقلب غير سالي كل السبب عساكر الحلالي.
والحلالي هو حسين الحلالي عامل الإمام أحمد على الحجرية.
وثمة قصائد أخرى أرخت هذه العذابات أبرزها قصيدة البردوني: غريبان وكانا هما البلد، والثانية البالة لمطهر الإرياني، وقصيدة غريب على الطريق للشاعر محمد أنعم غالب. وغيرها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.