وصلت جميع القوى المتصارعة في البلاد إلى الذروة. والآن كيف يمكن أن تتم عملية الإنزال؟! قال وزير خارجية الاتحاد السوفييتي، غرميكو، نهاية الثمانينيات، للصحفي العربي محمد حسنين هيكل، في لقاء حزين لمواقف حلفائهم العرب: "مشكلتنا معكم يا عرب أنكم عندما تريدون الإقلاع تقلعون معنا بطائرة السوفييت؛ لكن عند الهبوط لا تريدون أن تهبطوا إلا بطائرة الأمريكان". وفقاً لمنطق المصلحة العليا للوطن، يجب أن تفرغ جميع الأطراف شحنات الغضب والعداوة التي تراكمت طيلة العقود الماضية. نجاة اليمن هي بقرار واحد تتخذه جميع القوى: الاتجاه نحو عملية انتخابية. الانتخابات هي مخرج الطوارئ الوحيد الذي يمكن أن ينقذ هذه البلاد، بما فيها الأحزاب السياسية نفسها، التي تكاد أن تنطفئ لصالح قوى بديلة ستحل مكانها، شطرية وطائفية. المكر دائماً، وفي هذه المرحلة تحديداً، ليس مفيداً لأي قوة سياسية. وصراع السنوات الأخيرة في اليمن أكد هذه الحقيقة. وعندما رفض مرسي الانحناء للشعب وقرر الذهاب بمصر إلى المجهول، رافضاً الدعوة لانتخابات سريعة، جرفته الطبيعة إلى السجن، ومن معه. لكن النتيجة اختلفت في تونس، عندما رضخت حركة النهضة للمنطق وذهبت إلى صناديق الاقتراع. لا يريد "الإصلاحيون" في اليمن أن يعترفوا بالهزيمة السياسية والعسكرية، ولا يريدون الذهاب إلى الانتخابات. إنهم، فقط، بانتظار ما سيقرره الخارج. استطاع المؤتمر الشعبي العام أن يحافظ على كيانه كتنظيم سياسي، وأن يتخطى مرحلة التدافع المسلح. وبسبب الاحتباس الذي عانى منه هذا الحزب، والضغوط الهائلة التي تعرض لها ليغادر تاريخ السياسة في اليمن، تقافز الكثير من أعضائه إلى بنادقهم ليتمترسوا خلف هويات اجتماعية وثقافية قديمة؛ ففي مناطق شمال الشمال التحقت أعداد بالحركة الحوثية، وقررت الغالبية منهم أن تقف موقف الحياد. والحال نفسه مع قيادات يسارية وقومية في حاشد وبكيل عندما تعرضوا للتنكيل السياسي مطلع الثمانينيات ومنتصف التسعينيات، انعطفوا مجبرين لتعبر موجة الإخوان، ثم انتظروا كأي سياسيين مناضلين، لكن دائخين، على جانب الطريق، حتى جاءت مسيرة "أنصار الله" وركبوا فيها وهي تجري بهم في موج كالجبال. والحال نفسه يمكن أن يؤدي إلى هذه النتائج إذا بقي الجميع دائخين، ولم يتجهوا إلى الانتخابات: "الإخوان سينتظرون مسيرة "أنصار الشريعة" حتى تأتي فيلتحقوا بها، والمؤتمر سيتجه البعض منه إلى ثلاثة مواقف اضطرارية: "فرزة" الزيدية/ الحوثي، وآخرون إلى "فرزة" الشافعية/ السنة، وآخرون إلى "فرزة" الحراك الجنوبي. العملية السياسية مجمدة منذ سنين، والاتجاه نفسه سيحدث إجبارياً مع بقية مكونات العمل السياسي، التي تقدمت قياداتها في العمر وصارت تفكر بمنطق الثأر، وهي تتعرض لضغوط: ارتفاع نسبة السكر. جميع الأطراف المعنية في البلاد يمنية؛ لكنْ هناك طرف مؤثر دخل على الأزمة من بدايتها بدعوة مختلف الأطراف: الخارج. تتصرف القيادات السياسية في البلاد مع الخارج، لا كطرف معني بالمسألة اليمنية في حدود معينة، ولكن كطرف أصيل في الداخل. يعتقد كل حزب أن الخارج يعمل لصالحه. الرئيس هادي يعتقد ذلك. وكان المالكي على ضفة الفرات يعتقد أيضاً، ومن قبلهما مرسي تملكه هذا الوهم، وكان القذافي من الضفة الجنوبية للبحر المتوسط يصيح باتجاه إيطاليا لصديقه "برلسكوني". يؤكد تاريخ الانتقال السياسي في المنطقة العربية، وفي العالم، أن الارتهان الكامل لمعجزة الخارج وهم. وعندما جرفت ثورة الخميني شرطي الرأسمالية سنة 79، تاهت سفينة محمد شاه بهلوي في البحار، ولم تجد مرفأ لدولة من دول الحلفاء ترسو عليها. قبلته مصر في الأخير، بدافع إنساني فحسب، وبشروط. كان الشهيد محمد عبد الملك المتوكل من أوائل القيادات التي اتجهت إلى ساحة التغيير. وعندما انحرفت بوصلة التغيير اتجه واعياً بنصيحة إلى جميع القوى السياسية للحفاظ على المؤتمر الشعبي العام من التداعي. هل كان الرجل مخطئاً؟ أم كان وطنياً عظيماً وحساباته صحيحة؟ المخطئ يومها كان محمد قحطان. عندما قلت له في مقيل مفتوح: حافظوا على المؤتمر، وإلا فإنكم ستدفعون بأجزاء منه إلى جبال مران وأخرى إلى سلة الحراك. كان الحوثي لحظتها في صعدة، وكان الإصلاح مزهواً بأوهام النصر في صنعاء والقاهرة. رد عليّ القيادي البارز في اللقاء المشترك رداً راخياً: "ابرد ابرد لك من هذا التحليل.. إحنا سنعزز علاقتنا بالاشتراكي وبس في الجنوب، أما الحوثي فأمره بسيط". يومها كان قحطان وإخوانه مرتهنين بالفعل لهذا الفهم ومغرورين، يقولونها على الهواء مباشرة ولا يبالون: "الحوثيين أولادنا وسنصبر عليهم"! مرت الأيام، وامتد الحوثي إلى جميع الجهات. اليوم قحطان لا يستطيع أن يحك رأسه إلا بإذن، و"أنصار الله" مكون رئيسي ومحوري قابض على الزناد. وعندما أسقط اللواء 310 في عمران، كان إعلام "المشترك" يكيل التهم لوزير الدفاع السابق، وأحياناً للرئيس هادي نفسه، بالتواطؤ مع الحوثي. اليوم، هذه القوى نفسها، والرئيس هادي والحوثي، تعقد الصفقات مجتمعة وترمي بالاتهامات على الرئيس صالح. هكذا يعتذرون كذباً عن الحروب، ثم يوقعون الاتفاقات كذباً، ليتنصلوا عنها لاحقاً، ثم يقولون إن "أنصار الله" شركاء أحياناً، وفي أحايين أخرى متمردون، وعندما يغادرون اجتماعاتهم تستقبلهم الكاميرات ويرسلون التهم إلى الرئيس صالح... ما هذا؟! هل هذه سياسة أم فشل ذريع فيها؟! .. وصالح في البيت، يرتشف قهوته ويقابل ضيوفه، بينما تشرب تلك القوى كؤوس الهزائم والصفقات كأساً بعد كأس... وتفر من الانتخابات. هم يخربون بيوتهم بأرجلهم، ويعتقدون الآن أن بأيديهم سهمين مُصوَّبَين باتجاه رئيس سابق: الخارج بيد، والحوثي باليد الأخرى. إذا استمرت هذه القوى محكومة بمنطقها الماكر هذا، فستجد نفسها في صدر التاريخ ليس أكثر من سهام كانت مغروسة في صدر هذا الوطن العظيم. *نقلاً عن صحيفة الشارع