ملف المعتقلين في السعودية من أكثر الملفات الشائكة في البلاد، ومن أكثرها غموضًا؛ إذ لا يوجد نظام واضح يُنظر من خلاله إلى هذا الملف؛ فلا أعداد المعتقلين تُعرف، ولا يسمح للمؤسسات الحقوقية ولا غيرها بالدخول لمعاينة حالة المعتقلين، ومدى صلاحية نُزلهم وتوفر الشروط الإنسانية والشرعية فيها، ولا يمكن بحال التواصل معهم ولا إيصال رسائلهم للفضاء الخارجي، ليتحدثوا بما يمروا به ويلاقونه في غياهب المعتقلات السعودية. التعذيب والتسهير والابتزاز الفكري والتجريح العاطفي والخداع، بل والسحر حتى، كله هذا متداول ونشره بعض من اعتقلوا سابقًا أو من له قريب معتقل، وقد نُشر الكثير منه وتواتر؛ وقد نشر الدكتور محسن العواجي تقريرًا حول شهادات معتقلين سابقين وقدمه لوزير الداخلية في حينه (الأمير نايف). المهم أن هذا وغيره من الممارسات التعسفية والاعتقالات العشوائية، والأحكام المخيفة إزاء جرائم لا تذكر، كالتعاطف مثلا؛ هذا كله تسبب بحالة من الاحتقان والتشنج لدى الشعب السعودي، لاسيما وقد حمي الناشطون بعد دخول مواقع التواصل على خط القضية، وخرج الناس عن صمتهم، وتجاوزوا حالة الكبت -ولو نسبيًا-؛ فبدأ طرح التساؤلات حول ملف المعتقلين؛ الأمر الذي شكل ضغطًا على الحكومة التي أتقنت تكميم أفواه الناس، ولكن قبل شيوع مواقع التواصل وأهمها “تويتر”.
الحكومة أصبحت مضطرة للحديث عن المعتقلين وقضاياهم؛ لمحاولة إقناع الشعب بعدالة الحكومة وما تطلقه من أحكام “عسكرية” مغلفة بشماعة تسمى “القضاء الشرعي” الذي هو أشبه بضابط عسكري له لحية ويعتمر عمامة الشيوخ، لكنهم دائمًا يفشلون لإقناع الشعب بما يصدرونه من تصريحات، لاسيما وأن هذه التصريحات لا تستطيع الرد على التساؤلات المطروحة على الملأ، ولا تملك ما يقنع الناس بعدما بذلت ما لديها من بيانات إعلامية، وأطلقت شيوخًا هنا وهناك يُدينون المعتقلين ويُجرّمونهم، ولكن يبقى هذا كله في كفة، وما يقدمه الإعلامي “داوود الشريان” في برنامج “الثامنة” في كفة لوحده؛ إذ سلك الشريان مسلكًا جديدًا وذكيًا في التلاعب بعقول الناس، وذلك من خلال استضافة بعض المعتقلين ومناقشتهم بكل حرية، والسماح لهم بقول ما يعتقدونه بلا ضغط ولا تطويع.
الحقيقة أن هذه الفكرة توهم البسطاء من الناس أن هذا المعتقل يمثل كافة الأفكار السجينة في زنازين الحكومة، وأن كل معتقل إنما اعتقل لكونه يحمل هذا الفكر، لذا؛ استطاع الشريان “الإعلامي الاستخباراتي” أن ينتقي ضيوفه بناء على المعيار السابق، لذا؛ يبحث عن المعتقلين الذين يحملون فكرًا متشددًا جدًا، أو يأتي بسجين مريض أو مختل قضى سنوات من التعذيب الجسدي والنفسي، ثم يبدأ باستجراره ليتحدث بما يصدم الشعب به كتكفير الشعوب كافة واستحلال دماء المسلمين. وفي المقابل، يحاول الشريان الظهور بمظهر المتعاطف المشفق أمام هذا المعتقل الذي لا يرحم أحدًا؛ مما يورث لدى المتلقي -السطحي طبعًا- شعورًا بأن المعتقلين يمثلون خطرًا على البلاد، وأن الحكومة أحسنت في إيداعهم السجون كونهم يشكلون فكرًا شاذًا وخطرًا محدقًا بأبناء الأمة وبأمن البلاد.
إن الطريقة “الاستخباراتية” التي يسلكها الشريان هي طريقة مهترئة وأسلوب رخيص يعرفه من له أدنى اطلاع على أساليب المخابرات في ضرب القضايا العادية بنماذج شاذة ألصقت بها، من خلال إظهار شخصيات لا تمثل عشر معشار المعتقلين حقًا لدى النظام السعودي. لقد حاول الشريان التلاعب بالحقائق بطريقة توهم الناس بخطورة المعتقلين وأنهم يحملون فكرًا متطرفًا جدًا وشاذًا جدًا لا يقبله الدين والعقل مطلقًا. ولكن، يبقى التساؤل ويستجد دومًا: لماذا يتحاشى الشريان استضافة العلماء والمفكرين والحقوقين الذين سجنوا بلا حق ولا عدل أو سجنوا من أجل قضية عادلة ومطالب مشروعة نزيهة؟
لماذا لا يُستضاف من الشيوخ سليمان العلوان أو الراشد أو الفهد؟ ومن الحقوقيين، لماذا لا يتم إحضار الدكتور عبد الله الحامد أو الشيخ الرشود؟
والقائمة تطول بالعقلاء والصادقين الذين زُج بهم في غياهب السجون، وخنق صوتهم، وتحدث النظام عنهم ولم يسمع أحد منهم؛ والحقيقة أن الشريان إنما يستحمر الشعب السعودي بفعله هذا. حين يأتي بشواذ ليقول للشعب إن هؤلاء هم المعتقلون، وهذه أفكارهم، وهذه عينة منهم؛ والحق أن النبيه من الناس لا تمر عليه هذه الحيل الشيطانية.
إن هذه الطريقة هي استحمار لعقول الناس وأسلوب فيه استخفاف كبير بمدى وعيهم وإدراكهم، وهو بلا شك يمثل جريمة في حق الشعب وحق الوطن. ويبقى التحدي الذي يعجز الشريان أمامه ولا تقوى عليه الحكومة نفسها؛ هو استضافة أحد ممن ذكرناهم أعلاه في لقاء مباشر. فهل يستطيعون فعلها؟