كان لدى الناس ثمة شعور أن المظلوم لابد أن يتكيف مع عنجهية الظالم ليتحاشى مزيداً من بطشه، وكان لهذا الشعور حسنات نال ثمرتها الأقوياء، وعندما بدأ بعض المتضررين رفض هذا المبدأ، كان ذلك ظاهرة غريبة استوجب مواجهتها بشتى الوسائل، ورغم ذلك فقد وجدت تلك الجهود والتضحيات طريقها لتكوين قيم جديدة ترفض الظلم وتبغض الظالم، وبدأ الناس استحسانها وتعميمها، مما أدى لظهور قضايا عدة كانت طي الكتمان. ظهرت القضية الجنوبية وكانت صاحبة السبق في رسم طريق الوقوف ضد الظلم وتقديم التضحيات، ثم قضية صعدة، ولحقتها قضايا الآن في طور البداية، مثل: قضية تهامة وقضية المهمشين والقضية الماربية، لم يبقَ سوى قضية المناطق الوسطى لاتزال نائمة مع أنها بمستوى قضية صعدة، الخراب والدمار الذي طال قراها وعزلها، والتصفيات التي طالت وجاهاتها ورجالاتها، والقتل والموت الذي طال أبناءها ونساءها وحيواناتها، والتدمير الذي طال آثارها وتاريخها من مبانٍ وحصون وقلاع وبقايا العصور المتعاقبة، كل ذلك يجعل قضية المناطق الوسطى قضية تستحق الاهتمام والمناقشة، إذ لا يزال بعض رموز تلك الأحداث على قيد الحياة ولم يطَلهم حتى أدنى حساب أو عتاب. إن كانت القضايا تقيّم بحجم الضرر وتأثيره، فالضرر مازال قائماً ولم يتم معالجة أي من آثاره، الأيتام والمصابون والجرحى رغم مرور السنين وتعاقب التغيرات لا يزال حالهم كما هو، أصوات المدافع وأزيز الدانات والشظايا وضجيج الطيران ورائحة الباروت ودخان القصف وصور الموت الذي كان يطارد الناس في الحقول والمراعي والمجارين، وصراخ الأطفال وفزع الحيوانات وأنين الضحايا وزحمة الحياة في الجروف والكهوف، لا تزال جميعها مشاهد حية في نفوس آبائنا وأمهاتنا، ومازالت آثارها موجودة في حياتهم وكأنها حدثت بالأمس.. المنازل المخربة والأسر المهجرة والحصون التاريخية المدمَّرة لا تزال تنتظر من يلتفت إليها.. الجبال والمرتفعات الملغَّمة لا تزال خطراً يهدد ما تبقى من حياة في تلك المناطق، بل ولا تزال المنطقة منسية تماماً من المشاريع والخدمات. كانت الدولة تواسي المنطقة على طريقتها بتعيين بعض الوزراء أو القيادات من بعض تلك المناطق، فيما الناس تعيش حالة مأساوية، وكان ذلك العلاج الحكومي بمثابة تحلية مياه البحر بملعقة سكر. فأي قوانين عدالة انتقالية يمكنها أن تكون عادلة إن لم تنظر لمثل تلك القضية ولو من باب المسئولية الأخلاقية واحترام آدمية الإنسان، وإذا كان الاعتراف بعدالة القضايا لا يأتي إلاّ عبر التصعيد والاحتجاج والتجمُّع وعرقلة الحياة وتجديد التضحيات لتذكير المتناسين، فإن ذلك ليس بالأمر الصعب. [email protected] * صحيفة المنتصف