وأخيرا يا أستاذ ناجي ..أخيرا أيها العبقري ...تنتهي قصة وجودك الحافل بالنقائض والمفارقات ..النجاحات التي تدير الرؤوس وتصيب بالدوخة والخيلاء أيضا ، والإخفاقات التي تقتل المرء حيا وتلقي به في جبّ من ظلام لا قرار ولا نهاية له .. أخيراً توقفت عجلة الساقية عن الدوران .. طار حمام الوادي .. وصارت روح الدرويش المتجول شفقاً من ضوء يشف بعيدا في السماوات .. ها أنت ذا يا ناجي القدسي .. بجسمك الذي انتحل تتجاوز زحل وغير زحل من كواكب الملكوت مبتعدا .. ومتعاليا على زمن لم يعرف قدرك ..لم يستوعب اختلافك ..ولا تفهّم تغريدك خارج السرب ....ولا عرف كيف يقرأ جملتك العصية على التفكيك .. الهاربة دوما من أسن المألوف ، والعادي ، والمتوقع .. أخيراً فارقتك حيرة السؤال وأنت تنفلت كبرق خاطف شق جدران الجسد العمياء ..وشق معها جدران وجود لا تفتح فمك إلا كي تلعنه ..ولا تغمض عينيك إلا لتبكي منه .. تتذكر السؤال طبعاً فلطالما رددته على مسمعي وأهدابك تنطف الدمع ... مالذي فعلته حتى يحدث لي كل هذا ؟ أليس هذا هو السؤال ؟ وبعدد المرات التي سألتني ..حاولت أن أفسر لك .. حاولت وأنا على يقين أنني لم أكن مقنعاً لك ولا لنفسي حتى .. ثم بأي تفسير أقنعك وأنا أرى وأدري .. أرى جراحات الزمن التي شققت روحك ..أرى نزيف الوجع في عينيك ..اسمع الألم يتنزى في صوتك الأجش ، وأتحسسه شوكة شوكة في كل كلمة يبوح بها تاريخ عذاباتك الطويل .. أكاد أيها الموسيقار أسترجع رحلتي معك ..بكل تفاصيلها يوما يوما ..بل ساعة ساعة وكلمة كلمة ....أسترجعها ..وقد صار غيابك حضورا أتنفسه في كل شهيق وزفير .. كلما حاولت شغل حواسي عنك .. أجدك واقفاً أمامي تناديني مبتهجا بي كما تعودتك ..بتلك النغمة الخاصة بك ؛ علواني .. أسمعك ..وأبحر فيك .. حيث دارت بك الحياة حزينة قاسية وعرة ..وحيث دورتها ساقية إبداع تتفتح شبابيكها في كل قلب .. لم تكن الحياة عادلة معك .. ولا الناس كانوا عادلين .. حتى المؤسسات البائسة التمس لها العذر ..فلم يكن بوسع أحد أن يرتقي مرتقاك ليفهمك ... كنت عالياً أكثر من اللازم ..مبهرا أكثر من اللازم ...عبقريا أكثر من أن يتمكن أحد من تقديرك ...لكنك في نفس الوقت كنت عاريا كغصن أخضر في صحراء شاسعة ..وكنت بسيطاً حد الإغراء بتجاهلك ..غريباً يسهل تبرير نسيانك ..يمكن الإحتيال عليك، بل وحتى مصادرة حقك في الوجود.. كنت عبقرياً بلا روافع ولا مساند لعبقريته .. عرق ذهب في مستنقع بائت ..في قبيلة بدائية تأكل البشر ..لكنها لا تعرف حتى معنى الذهب ناهيك عن معرفة قيمته .. أنت أستاذ ناجي من اجترح رحلة عذابه بيده منذ البداية .. من يوم أنساك شغفك بالعزف على عود صنعته بخيال طفولتك الباذخ أن تحرص على التوازن ...وفي بهجتك بما يتخلق على أناملك من سحر .لم تتذكر أنك تجلس على حافة نافذة عالية في البيت .. كان الثمن يومها يدك ورجلك ...وقد ظلتا غير سليمتين بقية حياتك .. هكذا بدأت رحلتك مع الفن بتضحية لا مبرر لها .. مالم تنتبه له أن تضحياتك ستتواصل على مدار العمر .. وأنك ستظل تقدم التضحية تلو الأخرى دون مبرر .. أكثر من ذلك أنك لم تنتبه أن حافة النافذة العالية التي سقطت منها لن تكون حافتك الأولى والأخيرة ..فقد كانت حياتك كلها وجوداً على الحافة نفسها ..وكنت دائماً لا تنتبه لضرورة التوازن فتقع لينكسر شيء ما في روحك .. كنت سودانياً وكنت يمنياً ..وكانت عبقريتك الفنية وموسيقاك الخالدة ترفعك إلى أعلى مقام في السودان وفي اليمن ..لكنه كان المقام على الحافة ..حافة النافذة العالية نفسها يا أستاذ ناجي .. إنك لا تذكر كم عدد الجروح والكسور التي أصابت روحك وأنت تصحو من سكرة شاسعة النشوة بنجاحاتك المدوية متذ أبدعت " جسمي انتحل ، وضاع مع الأيام ، وخلاص مفارق كسلا ، والحقيقة ، وأحلى منك ، وعشت الشقا ، وسلم بي عيونك ، وحمام الوادي ، وروح بابا ، والنضارة ، إلى أن دنى مجدك فتدلى بمعجزة الساقية . تكسرت روحك حين هويت من سكرتك الخرافية حتى لم يبق فيها ما تتكىء عليه مرة أخرى ..لأنك لم تنتبه أنك كنت رغم كل ذلك النجاح تجلس على حافة نافذة عالية ..الفارق أن سقوطك أيام الطفولة كان من حافة نافذة عالية في البيت ..أما هذه المرة فقد كنت تجلس دون توازن على حافة نافذة عالية في جدار وطن .. والفارق هذه المرة أن الأذى كان يطال الروح وليس الجسد .. مع ذلك فما حدث لك حيث دفنت سرتك لم يكن ليساوي جزءا بسيطا مماحدث لك حيث دفنت كلك ..لذلك فلا معنى لوصف ما عشته في اليمن لقد كنت في السودان حاضرا ومنكورا ..يحبك الناس وتشغف بك ذاكرة الكتاب والمثقفين .. وتتغافل عنك الجهات القادرة على التعبير عن تقدير الناس لك .. ويتناساك رفاق الرحلة أويتنكرون لك .. وهذا كان مصدر سؤالك الحائر دائما .. كنت تحتار لأنهم يعرفون قيمتك ويستطيعون فهمك وتقديرك لو أرادوا ..أما في اليمن فقد كان الوضع مختلقا .. لأتك غريب وغير مفهوم .. وهم لا يرونك ليس لأنهم لا يريدون أن يألفوك أو يفهموك أويروك ، بل لأنهم لا يستطيعون ذلك .. كنت عاليا أبعد من مدى رؤيتهم .. عبقري اللحن إلى حد تعجز عن إدراكه ذائقتهم الملوثة بالإرتجال والإستعجال و الإنفلاق على الذات وما ألفت. بمنتهى البساطة إنك أيها الموسيقار لم تجد في اليمن النافذة العالية ولاحافتها كي تجلس وتحلق ..فلم يكن ثمة جدار .. ولا ثمة نافذة عالية أو منخفضة ..ماوجدته كان مجرد جبّ مظلم كل خطوة فيه تقود إلى هاوية أكثر ظلاما ومأساوية ... صحيح يا قدسي أنك كنت تملك وطنين وأنك أعطيتهما خلاصة روحك ووجدانك وعبقريتك كلها ..لكن الحقيقة يا قدسي أنه ليس بوسع مبدع في العالم كله أن يدعي أنه ذاق مرارة الغربة داخل وطنيه وبين ناسهما كما ذقتها أنت .. ها أنذا أراك تقف ملوحا بسبحتك وتقولها منغومة بديعة : علواني وهانذا أجن كالعادة يابتسامتك النقية .. التي تنفتح عن فم خال من الأسنان كفم طفل بريء .. فهل أعجبك تفسيري الليلة لسبب مأساتك ؟ لم أكتب هذا في كتابي عنك ..وأنا الذي كنت أتشدق أنني لم أغادر فيه صغيرة ولا كبيرة من دقائق حياتك ... وما مربك إلا ذكرته وحللته .. ولم يكن ليخطر على بالي أني سأصل يوما إلى هذا التفسير ..لكنه الموت حقيقة الحقائق وكاشف الغامضات .. كم من الحقائق تكشفت لي يا ناجي ..منذ رأيتك ونحن نخرجك من ثلاجة المستشفى كشمس يتبلج صباحها ..أحسست أن رائحتك الزكية ..ووجهك النير ..وجمالك البديع ..تفتح لي مليون نافذةعلى ماحدث لك ..رأيت الحواف كلها وشاهدت أيضاً ما تكنّه الجدران .. ثم وجدت تفسيرات أخرى في شجن خاتمة أيامك الدكتور أحمد شادول ...في حرقة ودموع الشيخ على الهادي و الأستاذ عثمان تراث ...في أحزان ولوعة فاطمة وإخلاص جبران .. في توجعات هشام محمد وعبد الرقيب الوصابي في أسف الفنان قؤاد الشرجبي ..قبل أن أراها تجتمع في انكسارات فتحية وأحمد وعبدالله وسعاد .. وفي عيني عبد الرحيم وهما تحملقان في اللاشيء.. - علواني ؟ - لنكتف بهذا يا أستاذ ناجي - علواني ؟ - ......................... - علواني علواني علواني - أرجوك أستاذ ناجي ..فأنا لم أنم منذ يومين ..اعتقني من ندائك الحبيب الذي يعيدني إلى وجع فراقك كلما غفوت ...لو بقيت يا ناجي مصر اً على ( علواني ) هذه فستحرمني وتحرم نفسك من ضرورة اكمال مشروعنا المشترك .. لأني سأغادر هذه الدنيا والحق بك .. وكا لعادة سيطال الإهمال مؤلفاتي وعلى رأسها كتابي عنك .. كما طال موسيقاك الخالدة ..بعد ها لن تكون وحدك قمرا في الظل ..سنكون معا في ظلام لا نهاية له.