إن الحضارات الأولى لم تنشأ إلا حيث وجدت فرص النشاط الاقتصادي وحين انهار سد مأرب هاجرت العديد من القبائل اليمنية دونما اكتراث لمجدها السياسي الذي كانت عليه مملكتها لأن التجارب ألهمتها حكمة أن "الجدب" لا يبنى دولة ولا يحفظ عزة أي شعب وأنها لو شيدت السد أولاً لما تسنى لها رفع قواعد مملكة سبأ العظيمة، ولما ذاع صيتها في أرجاء المعمورة فكان حقاً علينا أن تتساءل : ما بال مقرات سياسية اليوم تراهن على ارتقاء الكراسي أولاً حتى لو جعلت الثمن إعادة اليمن إلى زمن "الجدب"؟ عندما اختارت الشعوب التحول الديمقراطي فإنها لم تفعل ذلك إلا بعد أن أنهكتها حلبات الصراع على الحكم واستنزفت مواردها وطاقاتها البشرية، وعطلت نماءها الحضاري، فكفلت لبلدانها أنها بالممارسة الديمقراطية - استقراراً ومناخاً آمناً أطلق عنان نهضتها التنموية حتى بلغت ما هي عليه اليوم من قوة اقتصادية ونفوذ سياسي دولي. غير أن العكس من ذلك تماماً ما اتجه المتمنطقون بشعارات الديمقراطية في ساحتنا اليمنية إلى قراءة أبجديات الثقافة الديمقراطية بالمقلوب ، وبدلاً من أن يتخذوها وسيلة جعلوها غايتهم النهائية التي يضحون من أجلها بالمؤسسات الدستورية، ويعطلون لأجلها الحركة التنموية، ويشلون بها الحياة السياسية، ويحملونها إلى الشوارع لتعكير سلام المجتمع وإباحتها للنهب والتخريب والتقطع وسفك الدماء البريئة باسم النضال. عندما يتمنطق البعض بلغة الديمقراطية ينبغي عليه أولاً التحلي بثقافتها ليتفادى كشف ضحالة وعيه السياسي حين يصر على فرض رأي الأقلية على الأغلبية ويعتبرها ديمقراطية حقيقية، أو حين لا يكون لدى حزبه سوى مقاعد محدودة جداً وينصب نفسه وصياً وناطقاً باسم (25) مليون مواطن يمني .. أو حين ينفصل من عام لآخر من العملية الانتخابية ويعد ذلك بطولة ديمقراطية. أو حين يهدد بفوضى خلاقة ويحاول إقناع الجماهير بأن الفوضى ثقافة ديمقراطية وأن الاستقواء بالخارج تعبير عن احترام السيادة الوطنية. لا شك أن ذلك المنحى في التعاطي مع الديمقراطية يصبح مصدر قلق الدولة حين يكون مبعثه كيان سياسي يحظى بثقل جماهيري، إلا أنه حين يترجم ثقافة قوى فاقدة للقاعدة الشعبية فإنه يحمل السلطة مضاعفة جهدها في نشر الوعي الديمقراطي وترسيخ التجربة بمزيد من الممارسات الديمقراطية، لأن أي تعطيل أو إرجاء للحقوق الدستورية المكفولة للشعب في المشاركة السياسية يعني النشوز السياسي، والإمعان في ترويج وتشجيع وسائل الابتزاز السياسي وإفراغ الديمقراطية من قيمتها الأخلاقية والإنسانية الرامية لتعزيز الإرادة الشعبية في صنع القرار السياسي وليس مصادرتها بالترهيب والفوضى. وطالما وأن من سبقنا إلى التحول الديمقراطي كان خياره مصدراً للنهوض التنموي الشامل، فإن الزمن المستنزف في الحوارات العقيمة وحول طاولة المساومات، إنما هو مستقطع من العمر التنموي الحضاري لليمن، ومن الحق الإنساني للأجيال في ضمان فرصتها المستقبلية في الحياة الكريمة، وإذا كان الحوار والاتفاقات الجانبية بين الأحزاب بمثل لوناً من الشفافية الديمقراطية المعمول عليها في تطور التجربة، فإن الخطأ الفادح الذي ترتكبه هو فتح السقف الزمني لذلك إلى ما لانهاية على حساب الحقوق الدستورية، حيث إن الأحزاب – سوى الحاكم أو المعارضة – تمثل قواعدها التنظيمية وغير مخولة دستورياً في مصادرة حقوق ملايين المواطنين المستقلين الذين كفل لهم القانون فرصة المشاركة في صناعة القرار السياسي. ومن هنا فإن المصالح الوطنية العليا تفرض علينا جميعاً وقف هذا الاستنزاف للزمن الحضاري لليمن، ورص الصفوف والالتفات إلى التحدي التنموي المرتبط بكثير من معاناة شعبنا وهمومه المعيشية، والذي ما زالت تبعاته من بطالة وفقر وغيرهما تجر بلدنا إلى كثير من المشاكل الاجتماعية والفكرية التي لا مناص أمامنا اليوم غير الاستثمار الأمثل لتوجهات القيادة السياسية في التحول إلى الحكم المحلي والواسع الصلاحيات الذي من شأنه حشد الجهود والطاقات الشعبية لكل وحدة إدارية وإشراكها في مسئولية التنمية الذاتية لنطاقها الجغرافي. ولا بد من الوثوق بأن رفع قواعد الحركة التنموية هو الرهان الحقيقي على مخرجات سياسية وديمقراطية نوعية لان ذلك الارتقاء بالإنسان أساس نهضة أي بلد.