يبدو أن زيارة الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد لبيروت في 13 أكتوبر لم تشكل فقط تحديا واضحا لإسرائيل وأمريكا وإنما بعثت أيضا برسالة قوية للجميع مفادها أن طهران مع اللبنانيين على كافة طوائفهم وليس حزب الله فقط . فاسرائيل كانت تراهن عشية الزيارة أن تندلع اضطرابات في لبنان احتجاجا على زيارة نجاد الذي تتهمه بعض القوى السياسية اللبنانية بأنه يدعم طرف على حساب طرف آخر ويسعى لإقامة دولة شيعية في هذا البلد العربي الجريح ، إلا أن نجاد فاجأ الجميع بتصريحات معتدلة تماما ركزت في جوهرها على دعم لبنان القوي والموحد بل وحذر بشدة من أن الدول الاستعمارية تريد الإيقاع بين شعوب دول المنطقة الذين عاشوا في سلام ووئام منذ أمد بعيد ، قائلا :" الأعداء لايريدون لشعوب المنطقة أن تكون متحدة وقوية ومستقلة ومتطورة ، إلا أن شعوب المنطقة تدرك جيدا أن رمز العزة هو الوحدة وهي ستفوت الفرصة على الأعداء ". ولم يقف الأمر عند ما سبق ، بل إن نجاد لم يتطرق من قريب أو بعيد لموضوع القرار الظني المرتقب من قبل المحكمة الدولية الخاصة باغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري والذي أثار سجالا سياسيا واسعا في لبنان خلال الأسابيع الأخيرة . فالفخ الذي كان منصوبا لنجاد هو أن يتطرق لمثل هذا الأمر وبالتالي يؤكد الاتهام الموجه له بدعم طرف على حساب طرف آخر في لبنان ، إلا أنه نجح في الإفلات من هذا الفخ وبطريقة صدمت إسرائيل بقوة وخاصة عندما قال في الاحتفال الذي نظمه حزب الله على شرفه في الضاحية الجنوبية لبيروت :" امتدت يد الغدر إلى صديق عزيز وهو رفيق الحريري والآن يريد الأعداء مجددا إثارة الفتنة بين اللبنانيين ". ورغم أن إسرائيل كانت حذرته مسبقا من عواقب إتمام الزيارة ، إلا أن نجاد واصل تحديها وعلى بعد مرمى حجر منها عبر القيام بجولة في جنوبلبنان ورفضه أن يتحدث خلال الاحتفال الذي نظمه حزب الله من وراء الزجاج المضاد للرصاص بل إنه قام بخطوة قوبلت بتصفيق منقطع النظير من قبل الجموع الغفيرة التي كانت باستقباله عندما طالب بأن يقتصر الزجاج المضاد للرصاص على مترجمه فقط ، وهو هنا يؤكد لإسرائيل أنه يتلقى تهديداتها بصدر عار حتى وإن كان في مرمي نيرانها . بل وبعث أيضا برسالة طمأنة للبنانيين كافة عندما أكد أن إسرائيل الضعيفة حاليا تتبع سياسة الهروب إلى الأمام في إشارة ضمنية إلى أنها قد تشن حربا ضد لبنان أو غزة ، إلا أنه توعدها قائلا :" إذا هربت إسرائيل إلى الأمام فإن آثار هذا الهروب سترتد عليها بالتأكيد ". وبجانب طمأنة اللبنانيين ، فإن نجاد لم ينس أيضا القضية الفلسطينية ، قائلا :" ملحمة أهل غزة أثبتت ضعف الكيان الصهيوني وربما يبادر هذا الكيان المغتصب الملطخ بالتعصب إلى اعتداءات أخرى ، إعلان إسرائيل دولة يهودية دليل على عنصريتها والسبيل الوحيد لإحلال السلام هو عودة فلسطين لأصحابها الأصليين ". واللافت للانتباه أن الأمين العام لحزب الله استبق كلمة نجاد بتصريحات من خلال دائرة تليفزيونية مغلقة نفى فيها تماما وجود مشروع إيراني معاد للعرب ، قائلا :" ما تقوم به إيران ينسجم مع لاءات قمة الخرطوم العربية بعد نكسة 67 ، مشروع إيران هو ما يريده الشعب الفلسطيني وما يريده الشعب اللبناني وما يريده الشعب العربي ، نجاد لا يحمل مشروع فتنة وإنما هو يحمل مشروعا لوأد الفتنة ويدفع ضريبة شفافيته وصدقه عندما يتحدث صراحة عن الكيان الصهيوني الغاصب ". التصريحات السابقة وإن كان البعض يعتبرها متوقعة في ظل التحالف الوثيق بين حزب الله وإيران ، إلا أن نجاد استبق زيارته للبنان بما اعتبر خطوة ذكية جدا عندما أجرى اتصالا هاتفيا بالعاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز ويبدو أن ثمار هذا الاتصال ظهرت سريعا عندما علق وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل على زيارة نجاد بالإعراب عن أمله في أن تدعم الاستقرار في لبنان وهو ما فسره البعض على أن هناك تنسيقا سعوديا سورياإيرانيا لإجهاض المؤامرة الجديدة التي تحاك ضد لبنان على خلفية القرار الظني المرتقب من قبل المحكمة الدولية الخاصة باغتيال رفيق الحريري . ويبقى الأمر الأهم وهو أن نجاد قوبل باستقبال حافل على غير المتوقع من قبل اللبنانيين على المستوي الرسمي أو الشعبي ، ويبدو أن إعلان إيران مؤخرا عن استعدادها لتزويد الجيش اللبناني بالسلاح للتصدي للانتهاكات الإسرائيلية بعد تجميد واشنطن لصفقات أسلحة إثر الاشتباكات بين الجيش اللبناني وجنود إسرائيليين في بلدة العديسة الحدودية في جنوبلبنان كان بمثابة كلمة السر في هذا الصدد ، حيث نفت إيران حينها الاتهامات الموجهة لها بأنها تدعم حزب الله لإقامة دولة شيعية في لبنان وأنها فقط مع المقاومة ولبنان ضد بلطجة إسرائيل في المنطقة . صحيح أن سياسيين لبنانيين ووجوها من المجتمع المدني بعثوا عشية الزيارة برسالة مفتوحة إلى نجاد يتهمونه فيها بالتدخل في الشئون الداخلية لبلدهم وبدعم طرف في لبنان تمدد حتى تغول على الدولة والأحزاب الأخرى ، إلا أن أفعال نجاد خلال الزيارة جاءت فيما يبدو على عكس الاتهام السابق. استقبال شعبي ورسمي حافل
سليمان ونجاد خلال المؤتمر الصحفي وكانت الرسالة التي وقعها نحو 250 شخصية في 12 أكتوبر بينهم أعضاء برلمان سابقون وأطباء وصحفيون اتهمت أحمدي نجاد "بتكرار ما كان يفعله غيره" ، في إشارة إلى دعم طهران العسكري والمالي لحزب الله. وانتقد الموقعون على الرسالة الرئيس الإيراني على إعلانه دعم الدولة اللبنانية في الوقت الذي يدعم فيه حزب الله ، قائلين :"إن دعمكم للدولة اللبنانية منفي بدعمكم الموازي العسكري والمالي لطرف واحد في لبنان". وأضافوا " حديثكم ( نجاد ) عن أن تغيير وجه المنطقة يبدأ من لبنان ومسح إسرائيل من الخارطة عبر قوة المقاومة الإسلامية في لبنان يعطي انطباعا بأن زيارتكم هي لقائد عسكري إلى خط الجبهة الأول". ويبدو أن نجاد حاول دحض الرسالة السابقة حيث استهل زيارته للبنان بلقاء الرئيس ميشيل سليمان ورئيس الحكومة سعد الحريري وقام بالتوقيع على اتفاقات ومذكرات تفاهم بين البلدين في مجالات الطاقة والاتصالات والزراعة والصحة والتعليم . كما عقد سليمان ونجاد مؤتمرا صحفيا مشتركا في القصر الجمهوري ببعبدا أكد فيه الرئيس الإيراني وقوف بلاده بقوة إلى جانب لبنان في مواجهة "الاعتداءات الصهيونية" ، مشيرا إلى أن رسالته إلى اللبنانيين هي الوحدة والتضامن والتآزر . كما أكد أن المنطقة لا تحتاج إلى تدخل قوى خارجية في تسيير أمورها ، وأشاد في هذا الصدد بصمود لبنان الذي يستحق المديح وصمود الشعب اللبناني والجيش اللبناني في مواجهة "العدو الصهيوني" ، ووصف ذلك بأنه مبعث فخر لجميع أبناء المنطقة والتواقين إلى الحق والعدالة ، قائلا :" إن الشرق الأوسط لا يرى النور في ظل إسرائيل". ورغم أن تصريحات نجاد السابقة ركزت على صمود لبنان وشعبه وجيشه في مواجهة إسرائيل ولم يتطرق لحزب الله ، إلا أن الرئيس سليمان دحض أيضا الاتهامات الواردة في رسالة منتقدي الزيارة عندما أشار إلى أنه تم التأكيد خلال لقائه مع نجاد على أهمية صيانة الوحدة الوطنية اللبنانية , وشدد في الوقت ذاته على تطلع لبنان لإقامة علاقات وثيقة مع إيران ، مشيرا إلى أنه تم التوقيع على عدد من الاتفاقيات بعضها في مجال التعاون الدفاعي ، فضلا عن بدء المباحثات لتزويد لبنان بالمشتقات النفطية الإيرانية . والخلاصة أن نجاد لم ينجح فقط في تحدي العقوبات والعزلة التي يفرضها الغرب على بلاده وإنما بعث أيضا برسالة تحذير واضحة لإسرائيل مفادها أن محاولاتها لإثارة الفتنة بين سنة وشيعة لبنان بصفة خاصة والمنطقة بصفة عامة لن تجدي نفعا وسترتد عليها ، بل وكان الأهم هو رسالة طمأنة اللبنانيين بأن العرب والمسلمين معهم وأن هناك بوادر تنسيق عربي إيراني لإحباط أية مؤامرة جديدة تحاك ضدهم . صور استقبال نجاد في لبنان