ما حصل ويحصل في تونس من مظاهرات غاضبة بدأت في مدينة سيدي بوزيد له دلالات وأبعاد خاصة في بلد يحكم بالقبضة العسكرية والحلول الأمنية دون أي أمل قريب لاستنشاق ولو قليلاً من نسيم الحرية ولم يكن أكثر المتفائلين والمحللين يتوقع أن تندلع هذه الاحتجاجات بهذه الصورة في تونس . استئثار الحاكم بالحكم والثروة والبلاد والعباد وحكمه مدى الحياة وتوريثه الحكم لأبنائه كل ذلك يهون أو يمكن أن لا يولد سخط عام تتحرك معه الأفواج البشرية في الشوارع لتشتبك مع قوات الأمن غير عابئة بالتهديدات والمعتقلات , إلا أن التلاعب بمستقبل الشباب الخريجين من الجامعات والكليات ليجدوا أنفسهم في قائمة العاطلين عن العمل الطويلة جداً في مجتمعاتنا العربية المنكوبة بالفساد الإداري والرشوة والواسطة والمحسوبية لا يمكن تحمله على المدى البعيد وهو ما فجَّر الغضب المكبوت في النفوس . وحينما يتضاءل أمل العثور على الوظيفة والعمل في مقابل حصول أبناء المسؤولين وأبناء أبنائهم وأقاربهم على وظائف غيرهم وتقديمهم على من يستحق يكون الجو مهيأ للانفجار ولا ينتظر هؤلاء الشباب إلا القشة التي يقصمون بها ظهر البعير الأجرب . أحداث تونس كشفت عن مدى الاستهتار الذي تمارسه الأنظمة الحاكمة في بلادنا العربية فلا كرامة لمثقف ولا ما يحمله من شهادة فالشاب المتخرج من الجامعة يمكث سنوات ويتقادم به العمر ويتجاوز الثلاثين من عمره وربما يبلغ الأربعين دون وظيفة أو عمل يكرم به ويطبق به عملياً ما درسه في الجامعة وبالمقابل يرى أمامه ابن المدير والمسؤول يتخرج من الثانوية ليتوظف مباشرة في الدوائر الحكومية التي أصبحت إقطاعيات خاصة للمدراء وأبنائهم وأقاربهم بل ويتفرغ الموظف الجديد من يومه الأول في الوظيفة ليكمل تعليمه الجامعي والدراسات العليا على حساب الدولة بينما المستحقون للوظائف على قائمة المنتظرين في مكاتب العمل التي تطول فيها القوائم وتزداد الأسماء وكلما بدأ أمل يلوح عند سماع خانات للتوظيف جديدة يكون من نصيب حديثي التخرج ببركة سماسرة الفساد والإفساد وهكذا تكون الدائرة مغلقة وتتعاظم الحسرة والخيبة . حالة تونس هي حالة الجيل الجديد من الشباب العربي المحطم نفسياً ، وان يحرق شاب جامعي مثقف نفسه دليل على مدى الإحباط واليأس الذي وصل إليه الشباب العرب في بلدان ترفع أنظمتها شعارات الوطنية التي اختزلت الوطن في مجموعة من الأفراد . ( التشغيل استحقاق .. يا عصابة السراق) هذا هو الشعار الذي رفعه شباب تونس بعد تفشي ظاهرة الرشاوي والمحسوبية والبطالة المنتشرة في أكثر البلاد العربية , انطلقت المظاهرات من بوزيد لتتوسع حتى تصل العاصمة وتقرع أبواب قصر بن علي ليخرج للناس واعداً ومتوعداً حال الكثير من الحكام العرب الذين يغطون في نوم عميق لا يوقظهم إلا صوت الرصاص الحي والقنابل المسيلة للدموع التي يطلقها أمنهم على المواطنين المحتجين على الظلم . الشاب محمد البوعزيزي الذي فجر التظاهرات بإحراق نفسه ليس له أي اتجاه سياسي – بحسب مصادر إخبارية - وهذا يدل على ضعف الأحزاب المعارضة في بلداننا العربية وأن تحركها لا يكون إلا تابعاً للجمهور من أجل قطف ثمار نضاله وركوب الموجة لممارسة هواية التزلج التي تجيدها بامتياز أو تتحرك إذا فقدت مصالحها الحزبية أو تأذى بعض كوادرها وماعدا ذلك فهي ظاهرة صوتية لاستكمال حلقات مسلسل الديمقراطية العربية المنتهية صلاحيته . في تاريخنا العربي هناك ثورة الزنج والقرامطة وثورة الخبز وفي تونس ثورة العاطلين ثورة الخريجين ثورة الجياع المقهورين ثورة المظلومين ثورة الشباب المثقف التي بدأت في بوزيد لتعم تونس كلها كأحجار الدمنو المتساقطة والتي لن تقف في حدود تونس بل ستنتقل بلا ريب إلى غيرها من البلدان العربية لوجود نفس الأسباب حيث استخف المسؤولون فيها بأرزاق الشباب ومستقبلهم وحاصروهم في زاوية ضيقة لا أمل لهم بالخروج منها إلا الاحتجاج والتظاهر لعل من بيده الأمر يسمع شكواهم بعدما أغمض بصره وحتى لا يشيب شعر رأس الواحد منهم منتظراً دوره في قائمة مكاتب العمل أو يحرق نفسه أو يصعقها بالكهرباء ليسمع أهل الرأي أنين الألم بعد أن غفلوا عن آلام هي أعظم من ألم الحرق بكثير إنها الآلام النفسية التي يخلفها التلاعب بالوظائف والحسرة المكبوتة التي تزداد يوماً بعد يوم لتقرب أكثر من يوم الانفجار .