إشارة: (إلى روح الأستاذ الراحل فؤاد محمد بامطرف صوناً لزمنك الإذاعي المجيد، وتذكرةً لزمن إذاعي راهن فقد ذاكرته ويتهاوى إلى مزبلة التاريخ).
بدأت إذاعة المكلا الرائدة، كأول مؤسسة إعلامية إذاعية رائدة في حضرموت تصدح بذبذبات صوتها (هنا المكلا) في الثامن والعشرين من سبتمبر 1967م، إذ تعاقب على قيادتها وإداراتها عدد من الشخصيات السياسية المثقفة الفذّة كالأستاذين محمد عبدالله الحداد، أطال الله في عمره، والراحل الكبير فؤاد محمد بامطرف - طيب الله ثراه - فالأول وقد أمسك بزمامها في مطلع منتصف سبعينيات القرن الماضي بعد إرهاصات التأسيس الثورية الأولى نجح في فتح آفاقاً جديدة لها مع متابعيها الدائمين زمن الحضور الطاغي للإذاعات المحلية قبل هوجة الفضائيات وما شابهها من وسائط جادت بها ثورة الاتصال والمعلومات، وهي مرحلة مجيدة في تاريخ الإذاعة مازال يتذكرها المخضرمون فيها ويتغنون بمجدها كونها استطاعت أن تفتق عن مواهبهم الغضة وتغزل فيهم الثقة برغم شح الإمكانيات وغياب الحوافز المادية حيث استطاع الأستاذ الإعلامي الكبير محمد عبدالله الحداد أن يؤرشف حياتنا الاجتماعية والثقافية والسياسية إذاعياً فكانت رحلته مع توثيق الأعلام الصحفية والثقافية والإبداعية والفنية زاخرة بكثير من تسجيلات (الريل) التي تعد اليوم كنوزاً تراثية نابضة بروح حضرموت وأصالتها وإبداعاتها المتفردة.
بامطرف فؤاد الإذاعة:
أما الراحل الكبير فؤاد محمد بامطرف الذي تحل علينا ذكرى رحيله الثالثة، إذ غادرنا هذا الطود السياسي المحنك والثقافي الواسع الثراء المعرفي في السابع والعشرين من فبراير من العام 2008م بعد أن رسم ملامح المجد الإذاعي لهذه المؤسسة الرائدة واستطاع أن يشكل منها عجينة إعلامية تنصهر فيها الكثير من الرؤى والأفكار البرامجية والإبداعية لتقدم بإتقان إلى محبي إذاعة المكلا، ولم تكن فترة قيادته وإدارته لهذه المؤسسة التي تجاوزت السنوات العشر منحصرة في نسجه لعلاقات متينة ورائقة بين زملاء المهنة وحسب، بل غّلفها بقبس من روحه الهائمة في سماء حضرموت وعشقها السرمدي، فقد كان إعلامياً يتجاوز السياسي ويقود خطاه في دهاليز الحياة اليومية، وسياسياً ينير الأثير الإذاعي والإعلامي بضياء من زيت فكره المتقد والمتوثب لحياة أفضل وغد أجمل، نجح هذا الطود الإذاعي حتى وهو مكبل بإملاءات النزق السياسي حينها في العبور بمركبة الإذاعة إلى بحار الإبداع والجودة والإتقان والتفرد البرامجي وزادها بعداً صحفياً ودوراً تثقيفياً ظهر أكثر روعة وحضوراً في المشهد الإعلامي والصحفي والثقافي من خلال صفحات مجلة (هنا المكلا) التي كان يترقبها الجميع وتحتفظ بها اليوم ذاكرة المشهد الثقافي الحضرمي وتضعها في مقدمة المنابر الصحفية التي عرفتها مدينة المكلا خاصة وحضرموت عامة. إن المتابع والمتأمل لتلك الحقبة الإذاعية التي قادها وأدراها الراحل الكبير (أبو خليل) كما يحب أن يكنى، تضعك أمام علاقة خاصة تتكشف من بين سطور تلك الأيام التي سار فيها الراحل الكبير، إذ نجح في الارتقاء بالعمل الإذاعي منفتحاً على المجتمع مخففاً من غلواء الصوت السياسي الفج مهذباً لغة الخطاب السلطوي الواحد جاعلاً من التنوع الثقافي والثراء الإبداعي فضاءً جديداً أدار به لعبة السياسة بفن واقتدار واستطاع أن يجعل الإذاعة منبراً يتداخل فيه الخطاب الثقافي المجتمعي الفصيح والعامي مع الخطاب السياسي المؤدلج زمنئذ، فحين أدرك - برؤيته الثقافية الثاقبة - هاجس النخب المغرّدة خارج السرب الحزبي فعمد إلى تنويع الصوت الثقافي عبر أثير إذاعة المكلا وصفحات مجلة (هنا المكلا) ناثراً من خلالها حوار المسكوت عنه بين السياسي الآني والثقافي المتجاوز وهو ما عمّق ووسّع دور الإذاعة في حياة المجتمع. وظلت علاقة التعالق بين الإذاعة وفؤادها بامطرف تنمو شيئاً فشيئا، فمثلما نجح في إعادة صياغة رسالتها الإعلامية اليومية نجحت الإذاعة في ترسيخ مكانته المجتمعية بوصفه علامة من علامات الرصانة الحزبية والصوت الواعي والحصيف الذي أعاد صياغة الخطاب السياسي (المؤذلج) وأشاعه بين فئات المجتمع بلطف وسمو نفس ليستمر دوره وحضوره في المشهد الصحفي والثقافي من خلال قيادته للعمل في صحيفة (الشرارة) ووكالة أنباء (قنا) وصولاً إلى قيادته للنضال الوطني بعد منتصف تسعينيات القرن الماضي حاملاً قضية وطن ووطن القضية على كاهله حتى الرمق الأخير من حياته فجر السابع والعشرين من فبراير ليلتها توقف فؤاد إذاعة المكلا عن الخفقان وهو يخوض معركته الأخيرة لإعادة الروح لجيل المعاناة في زمن الطمس والتشويه والنفاق وموت المبادئ نافخاً جذوة الحياة وشرارة المواجهة لواقع آمن بتغييره واجتثاثه من جذوره فكان له ما أراد فاطمأنت روحه العاشقة لرحيق الحرية بفجر الغد الأفضل والأجمل فغادرت جسده إلى بارئها راضية مطمئنة، لتحمله الأيادي على الأكتاف في مشهد وداعي مهيب بمدينة مسقط رأسه غيل باوزير فكان الوداع الأخير الذي ووري جثمانه الطاهر الثرى فيه يحمل من الدلالات والمعاني والإشارات ما تعجز عن صوغه الكلمات وترسمه العبارات، ويكفي أن رحيله قد آذن بنهاية زمنه الإذاعي والصحفي المجيد في حضرموت، ويكفي (أبو خليل) أنه قد ظل شامخاً، عطاءً وحضوراً كطود حضرمي وطني لم يبع يوماً قناعاته لم يستسلم لمغريات مادية زائلة، لقد ظل يجهر بقوة الحق ويسخر من قوة القوة. فعشت يا أبا خليل وإن صمت فؤادك ومات القابعون في (ريم الإذاعة) وإن خفقت جوانحهم بحطام الدنيا وزيف بريقها الآني.. سلام عليك فؤاد الإذاعة وخليلها الدائم في ذكرى رحيلك الثالثة، وكفى!.