تنفست قريش الصعداء بهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم و المسلمين من مكةالمكرمة، و ظنت أنها قد أغلقت مكة لصالحها، و أحكمت السيطرة عليها. يجهل الطغاة حقيقة حياة و حيوية الفكرة و المنهج، و يقارنونها بحياة الأفراد ! كما يجهل الطغاة ؛ أن الفكرة طاقة لا تنفد، و أن المنهج ضياء لا يمكن حبسه، و لا طمسه. و فيما هم يجهلون هذه الحقائق، فإنهم يؤمنون بخرافات و أساطير باطلة و يريدون فرضها على الآخرين! لم يطل الأمر، فبعد أقل من عام من مغادرة الرسول و المسلمين مكة ، بدأت قريش تشعر بالاختناق، و تنفسها الصعداء لم يدم طويلا، فها هي الفكرة لم تمت، و ها هو المنهج يَخُطّ معالم الطريق، و ها هي رسالة محمد(ص) يتدفق ضياؤها في المدينةالمنورة و حواليها. ها هو محمد المطارد في مكة، يبرم معاهدات صداقة، و مواثيق تعايش، داخل المدينة، و مع القبائل المنبثة في محيط المدينة ، يعزز الحضور، و يؤمّن الدولة الناشئة، فقريش لا يؤمن جانبها. لقد خلقت الهجرة كيانا سياسيا أنشأ دولة في المدينةالمنورة، إذ لم تعد الجماعة المطاردة في مكة مجرد جماعة مضطهدة، و إنما أصبحت دولة تمثل سيادة سياسية - غير مسبوقة - في قلب الجزيرة العربية، و على قريش أن تبدأ في متابعة العد التنازلي لوجودها. و كما بدأت الدولة الناشئة تعزز حضورها السياسي بمعاهدات خارج المدينة، فقد، بدأت تمارس ضغوطا على خطوط تجارة قريش، مستهدفة تجارتها و اقتصادها. و لم يُطِلّ الشهر الثامن عشر للهجرة ( الشهر و ليست السنة ) حتى كانت قريش تستنفر كل قوتها العسكرية والمادية لتكسر عن نفسها تلك الضغوط السياسية و الاقتصادية التي تحاصرها . و ككل الطغاة لم تسلك مسلك التعاطي الراقي بالحوار، و مراجعة المواقف، و إنما بعنجهية الطغاة استنفرت جموعها لإعلان حرب إبادة على المسلمين. أصرّت عقلية أبي جهل، و أبي لهب ؛ إلا أن تمضي في غيها، و أن تسخر كل ما تحت يدها في معاداة الحق و الحقيقة ؛ للحفاظ على امتيازاتها و مآربها، و سلطاتها. و لك أن تتابع مسار تلك العقلية، و كيف قادت أصحابها إلى شر المهالك، و لك أن تتأكد أن عقليتي أبي جهل و أبي لهب مازالت(بعض ) فئة تتمسك بها، و تعتنقها، فالتاريخ قد يعيد نفسه بعقليات بالية ، تتسخر لها عقليات ذيلية، و نفسيات انهزامية ؛ تفر من وهج الضياء إلى غمرات الجهل والظلام . و لا يعيد مثل هذه العقليات إلى رشدها، و لا يخلّص المجتمعات منها، إلا المنهج الذي أشرقت به يوم بدر، يوم الفرقان. كان من حق المسلمين أن يتعرضوا لقافلة قريش التجارية ؛ ليستردوا بعض ما صادرته قريش منهم حين خرجوا فارين من مكة مخلفين فيها كل ما يملكون. و بينما كانت استعدادات المسلمين - حين خروجهم من المدينة - لملاقاة قافلة، كان خروج قريش استعدادا لحرب ، بعد ما وصلتهم أنباء تعرُّض المسلمين لقافلتهم. لقد تغير الموقف رأسا على عقب أمام المسلمين، فعما قليل سيكونون وجها لوجه مع جيش قريش الذي خرج بنية استئصال المسلمين. وكان لا بد ان يُجْلي الرسول الموقف لأصحابه، فراح يخاطبهم - و لم يكن عددها سوى ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا : أشيروا عليّ أيها الناس . فانبرى أبو بكر فقال و أحسن، و تبعه عمر بن الخطاب فقال و أحسن، و وقف المقداد ليدلي بدلوه في هذا الموقف الصعب، فقد تواترت الأخبار أن المشركين يزيدون عن الألف مقاتل، و من إدراك واقع الفارق المادي الكبير لصالح قريش، راح يخاطب الصف المسلم بين يدي الرسول بفارق الثقة الإيمانية : " يا رسول الله إمض لما أراك الله فنحن معك، و الله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى؛ اذهب أنت و ربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، و لكن اذهب أنت و ربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ". كلمات جمعت التميز صدقا و واقعا، تمنى أن لو قالها كثير من الصحابة يومئذ. لكن الرسول دعا له بخير، و كرر عبارته : أشيروا عليّ أيها الناس ! عندها وثب الصحابي الجليل سعد بن معاذ قائلا : لكأنك تريدنا يا رسول الله، و انبرى بثقة يتكلم بلسان الأنصار ، فرابطة الإيمان يفصح عن مكنونها أي عضو فيها، فراح يعلن موقف الانصار : "قد آمنا بك، و صدقناك، و شهدنا أن ما جئت به هو الحق، و أعطيناك على ذلك عهودنا و مواثيقنا، على السمع و الطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد. و كانت معركة بدر صبيحة يوم الجمعة السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة. لقد تغيرت خطة المسلمين في بدر ؛ بتغيّر مستجدات الأحداث، و لم تتغير الخطة بزيادة عدد أو عتاد، و إنما بهمة تغيرت، و نية تعززت، و إرادة نفسية تحولت ؛ لترتفع إلى مصاف التحدي المفاجئ ؛ لكنها المفاجأة التي لم تكن إلا عنصر تحد يضاف إلى عناصر التحولات الإيجابية في مواجهة الطغاة و الطغيان ، و موعود الله لا يتخلف، و يهبه خالصا لرجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه.. و لذلك كان : ( ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون ).