تأبط قابيل مُدْيته، و أعلن عزمه على قتل هابيل، أعلن ذلك جهارا نهارا" لأقتلنك" ! كان قابيل قد مُلئ حقدا، و طفحت نفسه إجراما، غير أنه كان قد بقي فيه شيئ من رجوله ! أفيكون في القاتل ظلما و عدوانا شيئًا من رجولة !؟ نعم، قد تبقى في شخص مجرم قدرا من رجولة تحاول جاهدة مغالبة النذالة و الخسة و الجبن ! و قد تأبى بقايا بقايا الرجولة أن تغدر، و تأبى لنفسها أن تتسلل تسلل الحية الرقطاء التي لا تواجه على الإطلاق و إنما تتقمص الغدر، و تتدسس خفية. بقية رجولة قابيل الأول، لم تسمح له بالغدر، أو أن يتسلل تسلل الأفعى؛ و إنما هدد، و أنذر و واجه "لأقتلنك". ياله من زمن رديء ؟ بتنا معه نفاضل حتى بين القتلة..!!
لكن القدر اليسير مما تبقى من رجولة قابيل( الأول) لا تسقط عنه صفة الوحشية و الإجرام ؛ و إنما هي نذالة وحقارة قابيل (الآخر ) التي أبرزت ذلك القدر اليسير من رجولة قابيل الأول، الذي أبى أن تكون جريمته متقمصة كامل النذالة والحقارة و الخسة التي تختزل بطعنة تأتي من الظهر كما يفعل القوابيل الجدد ! أضاف قابيل الثاني - و ما أكثر صنف قابيل الثاني - إلى جريمة قابيل الأول صفات الغدر و النذالة و النكران لكل معروف، و التنكر الخسيس لكل يد محسنة ! مارس قابيل (الأصلي) جريمته وحيدا، فهو من خطط ومَوّل و نفذ، و يمارس قابيل ( التايوان) جريمته كأداة لا أكثر؛ باعتباره أداة مسترزِقة، مستجدِية، متسولة ، تبيع دينها و ضميرها، و رجولتها لقاء لقيمات أو دريهمات معدودات. قابيل (التايوان) تحتشد حوله قوابيل تايوانية، بعضها يموّل ، و بعضها يخطط - و كللها تترزق و تتسول - ثم يأتي قابيل الأداة المنفذة . قابيل، أحيانا، قد لا يكون فردا، أو مجموعة، بل قد يكون جهة عريضة، ذات أموال و عبيد. كان (وحشي) العبد الذي اغتال سيد الشهداء حمزة بن عبدالمطلب مجرد أداة منفذة لمن موّل و خطط، إذ كان في عرف الرجولة حينها ألا يقتل العبد، أو المرأة ؛ و لذا لم يتعامل معه الحمزة رضي الله عنه كمحارب، و الرجولة الحقة ؛ أخلاق سامية. مرارا تعرض القائد صلاح الدين الأيوبي للاغتيال من الحشاشين الشيعة، و هم من اغتالوا الخليفة العباسي المسترشد، و الراشد، و الوزير السلجوقي نظام الملك، الشخصية العلمية و السياسية المشهورة، و الذي ينسب لاسمه مسمى التعليم النظامي. كان أبو لؤلؤة المجوسي (أحد القوابيل) مجرد أداة للغدر بعمر بن الخطاب، كما كان عبد الرحمن بن ملجم و هو (قابيل) آخر ؛ أداة للغدر بعلي ابن أبي طالب. لكن المجوسي و ابن ملجم لم يكونا وحيدين، بل كانت خلفهما قوابيل، كلها تتمتع بالصفات الإجرامية لقابيل الأول، لكنها تفتقر تماما لبقايا الرجولة التي كان يحتفظ بقدر منها ! رحم الله الشهيد ضياء الحق الأهدل ، تربص به مخطط وتمويل و أداة؛ ليمضي على سنة عمر و علي و نظام الملك! عند جريمة قابيل الأول حضر الغراب؛ ليعلم قابيل كيف يواري سوأة أخيه ، و قد بدا قابيل يحمل أخاه بعد الجريمة، حيث لم تطاوعه نفسه أن يتركه في الفلاة ! صدمت تعز صبيحة يوم السبت المنصرم عند سماع النبأ الفجيعة باستشهاد ضياء الحق، ففاضت المدينة بالوفاء للشهيد، و عمّها الحزن العميق، و حضرت الشهامة والنبل ، الذي عم الأرجاء، تضامنا، و تعاطفا مع الشهيد.. و بخسة و نذالة، وقفت بعض البُوم من بعيد يسيل منها خبث الحقد، و يطفح عنها نتن القول ؛ شماتة، و تشفيا ، و غِلّا !! إن يحسدوني على موتي فوا أسفي حتى من الموت لا أخلو من الحسد قليلا من رجولة قابيل كانت تكفيهم .. غير أن ذلك الخَبَث ُ و النتن لا يمسّ قليلا و لا أقل من قدر الشهيد؛ بقدر ما يكشف مقدار مساحة ذلك الحقد؛ الذي يتمنى معه كل إنسان أن يكون محصورا - فقط - و معبّرا عن تلك النفسيات وحدها، و أنها لا تمثل إلا ذاتها و لا تتعدّاها.