التغيير سنة هذا الكون, وأمّا الدوام فلله وحده, والذين يدعون للجمود ويصمّمون على التّقوقع ويحبّذون التكلّس, فإنهم يصادمون السنن الإلهية, ويغمضون أعينهم عن رؤية الواقع, ولايستشرفون المستقبل, فتتجاوزهم الأحداث ليصيروا شيئاً من الماضي! ثورات الربيع العربي ليست سوى تمرد على الجمود الذي فرضته الأنظمة العربية على الشعوب ولم تستجب لأشواقها وتطلعاتها, ولم تتمكن من التفاعل مع مستجدات العصر, معتمدة على القبضة الأمنية الشديدة, مطمئنة للقهر والغَلَبة, لكنها عجزت - في النهاية - عن الوقوف في وجه التيار الشعبي الجارف المنادي بالتغيير, الطامح لحياة حرة كريمة تليق بالإنسان العربي, بماضيه وحاضره, بإمكاناته الثقافية والمادية والبشرية . وفي اليمن دارت عجلة التغيير بعد أن أضاع النظام فرصاً كثيرة وأهدر أوقاتاً طويلة, حتى كاد الناس يفقدون الأمل في الخروج من الأزمات, وظن قصيرو النظر أن ليس بالإمكان أبدع مما كان, وذلك وهْمٌ مازال البعض مشدوداً إليه, لم يستوعبوا دروس الحياة, الأمر الذي سيجعل المستجدات تتجاوزهم, وقد تجبرهم على أن يدفعوا ثمناً باهظا إذا ظلّوا صخرة كأداء في طريق التغيير! بعد انتخابات 21 من فبراير نشأت شرعية جديدة بانتخاب عبده منصور هادي رئيساً جديداً وتوافقياً, عُهدَ إليه قيادة الفترة الانتقالية لإخراج اليمن من حالة الاحتقان والجمود إلى أفياء الاستقرار والنهوض والعدل والمساواة, وقد حفظت المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية للنظام السابق الخروج الآمن, مع غض الطرف عن الماضي بكل مآسيه وآلامه, في صورة نادرة من التسامح والتجاوز, باعتبار أن الزمن كفيل بإهالة التراب على الماضي الأليم ومداواة الجروح التي خلّفها... وإذا كان التغيير لا يعني الانتقام, لكنه لا يعني الفوضى والعبث, ويمكن أن يصبح محاسبة وصرامة في حال الإصرار على العودة بالأمور إلى نقطة البداية ومربع الاستئثار والاستكبار, ومحاولة الوقوف أمام عجلة الحياة, وافتعال المشكلات في طريق تنفيذ ماتم الاتفاق والتوقيع عليه !! الأسبوع الماضي أصدر رئيس الجمهورية عدداً من القرارات التي كانت متوقعة في إطار الصلاحيات الممنوحة له والآمال التي يتوق إليها الشعب, وكان المفترض احترام تلك القرارات وسرعة تنفيذها دون تلكؤ, ولاسيما أنها جاءت بعد موجة واسعة من الاحتجاجات التي كانت كافية ليقدم من شملهم التغيير استقالاتهم, كما يفعل كل من يحترم إرادة المرؤوسين, ولايفتح على نفسه أبواب المساءلة والتحقيق, لأن المسؤولية تكليف لاتشريف, والوظيفة العامة ليست شركة خاصة, ومؤسسات الدولة ليست عقاراً تملكه عائلة ليتوارثه الأبناء عن أبائهم, وبقاء المسئول في موقعه فترة طويلة تصل أحياناً إلى عقود من الزمان كافية ليطالب هو بالاعتزال حتى لو طلب منه البقاء في موقعه ! رفض قرارات رئيس الجمهورية وإعلان التمرد عليها ومحاولة مقاومتها بالقوة, تجعل الأنظار تتجه اليوم إلى كل حركات قطع الطرق وقصف أبراج الكهرباء وتفجير أنابيب النفط, وإقلاق السكينة العامة في أكثر من منطقة ؛ لتضع علامة استفهام عن الجهة المستفيدة من هذه الأعمال الإجرامية التي تسعى لتعطيل مسار التسوية السياسية التي تبنتها دول الخليج وحظيت برعاية المجتمع الدولي, كما أنها تضع الحالمين بالوقوف ضد مصالح المواطنين في حالة عداء مباشر مع الشعب اليمني, وأمام مسؤولية تاريخية لأنهم يقدمون مصالحهم الخاصة على مصلحة الأمة, فضلاً عن مواجهة المحيط الإقليمي والمجتمع الدولي .. رغم أن القرارات التي صدرت حتى الآن لا تزال أقل من تطلعات شباب الثورة, ولم تأت متوازنة مع فكرة التوافق, إلا إنها مثلت بداية تفتح الأمل في أن اليمن يتجه لطيّ صفحة الماضي, ويسير نحو التغيير, ويسعى لتحقيق الأمن والاستقرار, وأن الطريق يُمَهّد للحوار الوطني الشامل . على الذين تعوّدوا الإنفراد بالقرار أن يقبلوا اليوم بالآخر ويتعايشوا معه, وإذا كانت التعيينات التي أصدروها خلال أكثر من عقد من الزمان ظلت مقصورة على لون سياسي واحد, فعليهم أن يتقبلوا اليوم الشراكة مع إخوانهم بصدر رحب, ولسنا في مجال المحاصصة وإلا لقلنا أن تعيين أربعة محافظين ينتمون للمؤتمر الشعبي في مقابل محافظ واحد من المجلس الوطني ليس عدلا, وفي المرحلة الراهنة سيكون من الطبيعي الاستفادة من المؤهلين وأصحاب الكفاءة الذين تم تجاوزهم أو إقصاؤهم خلال العقود الماضية, فليس من الإنصاف إهمال هؤلاء والاقتصار على تدوير الوظائف القيادية بين المنتمين لحزب المؤتمر فقط, وخاصة أنهم خلال تفرّدهم قد حصروا وقصروا التعيين والترقية على أنفسهم من قمة الهرم إلى المراسل والفرّاش والحارس !! كلما حاولنا تجاوز الماضي ونسيان مآسيه يأتي المتندمون عليه لإثارة المواجع, ووضع الصخور في طريق قطار السلامة, متناسين سنن الحياة في التغيير, غير مدركين أن من العبث محاولة مغالبة سنن الحياة, ولو دامت لغيرك ما وصلت إليك, " وتلك الأيام نداولها بين الناس" , " ولن تجد لسنة الله تبديلاً " جميع القوى السياسية مدعوّة اليوم للإسهام الفاعل في الوصول باليمن إلى برّ الأمان, بتنفيذ المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية وعدم إضاعة الوقت في قضايا جانبية وهامشية, بحيث يتم الانتهاء من الحوار الوطني ووضع الحلول للقضايا والمشكلات المزْمنة, والاتفاق على شكل النظام السياسي, والإعداد لإجراء انتخابات حرة ونزيهة ومتكافئة تصل بنا إلى إقامة دولة المؤسسات التي تحفظ الحقوق والحريات لكل أبناء الشعب, وتطبق النظام والقانون على الكبير قبل الصغير, والقوي قبل الضعيف . نتمنى من كل محبّ وحريص على اليمن أن يكون واسطة خير, يبعد العوائق ويزيل الحواجز, يسعى لتقريب البعيد, ومداواة الجريح, وجبر الكسير, وتأمين الخائف, وطمأنة القلق, يجب أن نعمل معاً على ترشيد الخطاب الإعلامي الذي يبث التفاؤل والأمل, يبحث عن الحلول ولا يقف عند المشكلات, يكشف الحقائق بدون تهويل ولا تهوين, يبني القيم ولا يهدم الأخلاق, طال صبر اليمنيين وغدَوْا اليوم ينتظرون الفرج بعد الانفراج, والتغيير بعد الجمود, والوئام بعد الخصام, والأمن والاستقرار بعد القلق والاضطراب, " ويقولون متى هو؟ قل عسى أن يكون قريباً " [email protected]