الفنُّ قضية وموقف.. فإن لم يكن كذلك فهو عبثٌ لا طائلَ منه، ويوم أن يتنازل الفنان عن قضيته، ويحيا في نقطة رمادية بعيدا عن شرف المواقف، ونبل المساهمة؛ فإنه بذلك ينعي نفسه، ويعلن طقوسَ دفنٍ انفرادية تنْطمرُ فيه الذات المبدعة تحت ركام هائل من الأنانية وتعاظم الذات، وتتحوّل إلى دائرةٍ عبثيةٍ يتآكل فيها الإبداع، لتنتهي بصاحبها حيث ابتدأ، وما هو إلا كطرفة عين حتى يصبح الفنان وفنه نسيا منسيا، ليس له في ذاكرة الشعوب مكان يستظل به، ولا في شرف الأعمال الإنسانية الجليلة مأوى يستريح إليه. وفي فضاء الرسم التشكيلي –وغيره من أشكال التعبير الفني- أسماء كثيرة، انتهت كأن لم تكن، ولم تترك وراءها ما يدل على مرورها في سماء الفن؛ لأنها قامت على التجريد لا باعتباره تقنية من تقنيات الفن، بل على أنه نكوص عن المسئولية الأدبية، وهروب من الواجب الأخلاقي، وتخاذل عن النضال في مضمار القيم الإنسانية، وهنا تتحول الريشة إلى عرجون قديم يابس، واللون إلى خربشات باهتة لا تلبث أن تضمحل أمام نور الشمس وتتابع الليالي والأيام. والمتتبع لمسيرة الفن التشكيلي الحديث يجد أنه أصيب بما أصيبت به أشكال الفن الأخرى، من بثور الفوضى، وثآليل العبثية، بل إنه واجه على مدى عقود متطاولة تخريبا متعمدا تحت دعاوى التجديد والحداثة، فاتّسع بذلك للأدعياء والمتطفلين، شأنه في ذلك شأن قصيدة النثر التي تقدم نموذجا صادقا لقبح المدعين وشناعة المتشاعرين. وفي المقابل ثمة أنامل مبدعة تفتقت مواهبها في محراب الحق والخير والجمال، وعشقت الإنسانية حدَّ الولهِ، فكانت لسان حالها في انتصاراتها وانكساراتها، فانفتحت لها بذلك فضاءات رحيبة من الذيوع والانتشار، وتحولت سنوات العطاء الفني فيها إلى آباد ممتدة مثقلة بحميمية التواصل، مفعمة بألق الحضور، ولا تفتأ الإنسانية تلتفت إليها متأملة كلّما حزبها عارض من شقاء، أو أظلها رغدٌ من نعيم، وليس ذلك إلا لأن الإنسانية مطبوعة على الوفاء لكل من بذل في حماية قيمها الجميلة، وناضل في الدفاع عن مثلها النبيلة. ولأنَّ الثورة على الظلم من أجلِّ القيم الإنسانية وأعظمها، فقد تنادى عشاق الإنسانية من المبدعين إلى ساحات الرفض وميادين الحرية يتنسمون أشذاء الربيع القادم من عزائم الشعوب، ويحاولون ما وسعهم الفن اقتناص تلك اللقطات الفنية الجليلة التي تعجز عن الإحاطة بها عدسات التلفزة، وتقارير المراسلين، ولأنَّ هذه المواقف الجليلة كانت وفيرة وكثيرة، فقد استطاعت ثورات الربيع العربي في مختلف البلدان أن تنتج من أشكال التعبير الفني كما هائلا ونوعيا أحدث حراكا فنيا واسعا، ماكان له أن يحدث البتة في ظل تلك الأنظمة القاحلة المجدبة. الفنان شهاب المقرمي كان واحدا من هؤلاء المبدعين الذين أحيتْ مواهبَهم أمطارُ الثورة، وجعلتها مورقةً مزهرةً، تتنفس أنسامَ الحياة فنا وإبداعا، بعد أن كادت تنطفئ في سراديب الإحباط وزوايا التهميش والتجاهل. ولأنَّ الشهادة هي أعظم قيم الثورة؛ فقد وقف أمامها هذا الفنان الإنسان في نشوة صوفية عارمة، يتأمل شارات البطولة، وملامح العظمة في وجوه الخالدين الشهداء، وانطلقت ريشته في نهم كبير، ترسم تلك الشارات والملامح، وكأنه بذلك يقدم تكفيرا عمليا عما يعتبره ذنوبا فنية رصدها في كتابه التشكيلي (وجوه رصاصية) الذي حشر فيه ملائكة الناس وشياطينهم من كل حدب وصوب، وها هي ريشته اليوم تتبتل في محراب الثورة، فلا ترسم خطوطها إلا الشهداء.. الشهداء وحدهم. والمتتبع لنشاط شهاب سواء في ساحة التغيير في صنعاء، أو في موقعه على الفيسبوك، يلحظ أنه رسم كل الشهداء تقريبا، وبذلك يمكن القول أنه قدم توثيقا تشكيليا لأولئك العظماء، يستحق من الجهة التي أصدرت الكتاب السابق أن تصدره في كتاب يحمل سيرا فنية لهذه (الوجوه المضيئة)، وهو حق لشهداء أولا، ولشهاب ثانيا. ومثلما كانت الثورة سخيةً في إعطاء الفرص للمنشدين -على كثرتهم، وتفاوت مواهبهم- في تقديم أعماله، وتسجيلها، وعرضها على شاشات القنوات المناصرة لها؛ فلْتكن كذلك سخية في تقديم كافة أشكال العون المادي والمعنوي لتلك المواهب المذهلة –سواء الأدبية أو الفنية- التي كتبت السيرة الفنية لأعظم وأنبل وأجمل ثورة في تاريخ اليمن على امتداد الأزل.