منذ اشتعال الحرب في اليمن عام 2015، تحوّلت مدينة تعز إلى مرآة للألم وساحة مفتوحة للمعاناة، تحت حصار صارم فرضته جماعة الحوثي الارهابية. لم يكن الحصار مجرد مواجهة عسكرية، بل خطة مدروسة لشل الحياة، وكانت المياه أول ضحية في هذه الاستراتيجية القاتلة. تعتمد تعز على أربعة حقول رئيسية للمياه، تضم قرابة 88 بئرًا، تقع أغلبها في مناطق تسيطر عليها جماعة الحوثي مثل الحوجلة، الحيمة، والعامرة. كانت هذه الحقول تضخ أكثر من 20 مليون لتر يوميًا، تُلبّي احتياجات المدينة، لكن ومنذ اللحظة الأولى استخدمت الجماعة المياه كسلاح حرب، فعطّلت الضخ، ومنعت الصيانة، وأغلقت الطريق أمام الصهاريج، مما أدى إلى فقدان نحو 79 بالمائة من قدرة المدينة على تأمين المياه. في ظل هذا الاختناق، لم يكن أمام سكان تعز سوى الاعتماد على شاحنات لنقل المياه القادمة من الأماكن المحيطة، وخاصة منطقة الضباب، كمنقذ مؤقت. لسنوات، شكّل هذا الحل طوق نجاة نسبيًا، إلا أن الجفاف القاسي الذي ضرب المنطقة هذا العام غيّر المعادلة، فانخفض منسوب المياه بشكل حاد، وتراجعت قدرة تلك المصادر على الإمداد، لتدخل المدينة فصلًا جديدًا من العطش. منذ بداية الحرب، فرضت جماعة الحوثي سيطرة كاملة على جميع مداخل المدينة، ومنعت دخول الشاحنات المحملة بالمياه، واستخدمت الحواجز كأدوات ابتزاز. ولم يُفتح ثقب في جدار الحصار إلا بعد تحرير المنفذ الغربي المعروف بخط الضباب، الذي ظل هشًّا، مستهدفًا، وعاجزًا عن تغطية الاحتياج الهائل لسكان المدينة. نتيجة لهذا الخنق المائي، قفزت أسعار المياه إلى مستويات غير مسبوقة، حيث تجاوز سعر الوايت الواحد 60 ألف ريال يمني، وهو ما يفوق قدرة الأسر الفقيرة. ومع شح المياه النظيفة، تفشّت الأمراض المنقولة بالماء مثل الكوليرا وحمى الضنك، وزاد الضغط على المستشفيات التي بالكاد تقف على قدميها. في لحظة تسللت فيها المرارة إلى القلوب، خرج أبناء تعز في مسيرات استسقاء جماعية، يستنزلون الغيث من السماء بعدما فقدوا الأمل من الأرض. كانت هذه الخطوة تعبيرًا عن يأس عميق وصيحة مكتومة في وجه العالم، الذي بات يتعامل مع عطش المدن كأنه مجرد خبر عابر. وفي ظل هذا الواقع المرير، يجب على المجتمع الدولي أن يقوم بدوره في رفع الحصار المفروض على مدينة تعز، وتمكين مشروع المياه من العمل، وإعادة تشغيل الآبار الواقعة تحت سيطرة جماعة الحوثي، ودعم مشاريع التحلية وحصاد مياه الأمطار بشكل مستدام، وضمان وصول المياه لكل سكان تعز بلا تمييز أو شروط. الماء ليس امتيازًا ولا رفاهية، إنه حق وجود، أساس للكرامة، ورمز للحياة. وما يجري اليوم في تعز ليس مجرد نقص في الموارد، بل سلبٌ متعمدٌ لحقٍ إنسانيٍ جوهري. وجماعة الحوثي تتحمل المسؤولية الكاملة في هذا الانتهاك الصارخ، فهي تسيطر على منابع المياه وتمنعها عن سكان المدينة، رغم مرور أكثر من تسع سنوات على بدء الحصار. تعز لا تستحق هذا العقاب الجماعي، فقد وقفت منذ اللحظة الأولى مع مشروع الدولة والجمهورية والوحدة، في مواجهة النظام الكهنوتي السلالي، المستمد أجندته ودعمه من إيران. وأثبتت أنها قلعة مدنية مقاومة للفكر الإمامي والتسلّط العقائدي. وما يُضاعف من حجم الكارثة أن موقف الأممالمتحدة تجاه أزمة المياه في تعز يتسم بالحياد المفرط والتردد، رغم وضوح الانتهاكات التي تسببت بها جماعة الحوثي. هذا الغياب للموقف الحازم ساهم في استمرار الأزمة، وأضعف الضغط الدولي المطلوب لإنهاء الحصار، وترك سكان تعز في مواجهة العطش والموت، دون حماية أو تدخل فعال.