كشف تحقيق حديث لمنصة "لويدز ليست إنتلجنس" البريطانية عن تحوّل البحر الأحمر إلى مسرح لعمليات تهريب معقّدة، تستخدم فيها سفن مجهولة الهويات لتمرير شحنات وقود إلى مناطق سيطرة مليشيا الحوثي، وهو أسلوب احتيال شبيه بعمليات المافيا البحرية. وأظهر التحقيق، الذي اطلع عليه "الصحوة نت"، أن المليشيا باتت تعتمد اقتصادًا موازيًا يمر عبر الموانئ الخاضعة لها، بعيدًا عن آليات الرقابة الدولية. ويبرز نظام التعريف الآلي للسفن "AIS" كأحد أهم نقاط الاختراق التي سمحت لهذه الشبكات بالعمل دون تتبع.
وأكد مراقبون أن هذا النوع من التهريب يعكس منظومة متكاملة تمنح المليشيا مصادر تمويل ثابتة، وتزيد من نفوذها الاقتصادي في ظل ضعف أدوات التفتيش الدولية وضعف قدرة الأممالمتحدة على ضبط حركة السفن المتجهة إلى الموانئ اليمنية.
وتوصلت نتائج التحقيق البريطاني إلى أن ما يجري يعتمد على دعم لوجستي منظم يسمح بتجاوز مراحل التدقيق الإلزامية، الأمر الذي يعمّق من سيطرة المليشيا على موارد حيوية ويزيد أعباء المواطنين في مناطق سيطرتها.
ناقلات مزيفة
تتبعت المنصة البريطانية واحدة من أبرز عمليات الاحتيال البحري بعد رصد ظهور مفاجئ لناقلة تحمل اسم "دونغفوشان" قرب ميناء رأس عيسى رغم بقاء السفينة الأصلية عالقة في ميناء أوكراني منذ عام 2022، ما أثار شكوكًا حول هوية السفينة الواصلة لليمن.
وتبين لاحقًا أن السفينة التي ظهرت في الساحل اليمني لم تكن الناقلة الأصلية، بل سفينة أخرى انتحلت هويتها عبر التلاعب بنظام تحديد الهوية "AIS"، وهو النظام العالمي المعتمد لتتبع مواقع السفن، في مؤشر على قدرة تقنية عالية لدى شبكات التهريب المرتبطة بالمليشيا.
وأتاحت هذه العملية إخفاء مصدر شحنة الوقود ووجهتها النهائية، مما سمح للسفينة بتجاوز الرقابة الدولية وعدم ربط الشحنة بأي نشاط غير قانوني، وهو ما يعزز قدرة المليشيا على استلام الوقود بعيدًا عن القنوات الرسمية التي تخضع لمراقبة الأممالمتحدة.
وأوضحت بيانات ملاحية أن هذه الحيلة ليست معزولة، بل تتكرر مع سفن أخرى في نطاق الموانئ اليمنية، بما يشير إلى توسّع ظاهرة انتحال الهوية وتحولها إلى أسلوب ثابت تستخدمه شبكات التهريب العاملة لصالح الحوثيين.
ويحذر خبراء من أن هذا الاختراق في أنظمة التعقب يجعل من الصعب على الجهات الدولية التمييز بين السفن الحقيقية والمزيفة، الأمر الذي يفتح الباب أمام عمليات تهريب واسعة النطاق تتجاوز قدرة الرقابة البحرية التقليدية.
أشار التحقيق إلى أن الناقلة المنتحلة لم تخضع لإجراءات التفتيش التابعة للأمم المتحدة في جيبوتي، رغم كونها محطة إلزامية لجميع السفن المتجهة إلى الموانئ اليمنية، ما يعكس وجود دعم تقني وتنظيمي مكّن السفينة من الدخول دون الظهور في السجلات الرسمية.
ويؤكد خبراء ملاحة أن تعطيل أو تزوير بيانات نظام "AIS" يمنح السفن المشبوهة القدرة على الدخول والخروج من المياه اليمنية دون رصد، وهو ما يجعل آلية التفتيش الأممية غير فعالة ويتيح تمرير شحنات محظورة إلى مناطق سيطرة المليشيا.
وتفيد بيانات المنصة الدولية بأن عدة سفن استخدمت النمط ذاته خلال الأشهر الماضية، في دلالة على وجود تنظيم واسع يتجاوز قدرة الأممالمتحدة على الرصد، ويعني وصول شحنات الوقود إلى الحوثيين خارج أي إطار قانوني.
ويرى محللون أن استمرار هذه الممارسات يضعف منظومة العقوبات الدولية المفروضة على المليشيا، ويمنحها قنوات تمويل موازية تُمكّنها من توسيع برمجياتها القتالية والإدارية دون حاجة للاعتماد على موارد الدولة.
ومع هذا التفلت الرقابي، تزداد قدرة المليشيا على التحكم بالموانئ البحرية واستقبال شحنات الوقود عبر طرق ملتوية، مستفيدة من ثغرات واضحة في أنظمة التعقب الأممية وعدم وجود آليات متابعة مباشرة في البحر الأحمر.
اقتصاد موازٍ يدعم المليشيا
يُعد تهريب الوقود أحد أهم مصادر التمويل غير الرسمي لمليشيا الحوثي، إذ تدمج الشحنات الواصلة عبر الهويات المزيفة في شبكة توزيع سرية داخل مناطق سيطرتها، منتجة أرباحًا كبيرة تدخل مباشرة إلى خزائن الجماعة دون أي رقابة أو شفافية.
وتشير تحليلات اقتصادية إلى أن جزءًا كبيرًا من هذه العائدات يُستخدم في تمويل الأنشطة العسكرية والفعاليات الدعائية للمليشيا، بما يعزز قدراتها القتالية ويمنحها نفوذًا متزايدًا في المجتمع عبر شبكات مصالح اقتصادية وأمنية مرتبطة بقياداتها.
وكشف التحقيق الدولي أن هذه الأنشطة تستمر رغم القيود الأممية المفروضة على مليشيا الحوثي، ما يُظهر عجزًا واضحًا في أدوات الردع الدولية ويتيح للمليشيا توسيع اقتصادها الموازي دون أي مساءلة قانونية أو مالية.
وتعزز هذه الشبكات اقتصاد حرب يرسخ سلطة مليشيا الحوثي، ويقوض فرص التعافي الاقتصادي، ويمنح الجماعة مصادر تمويل ثابتة، ما يقوي حضورها العسكري ويطيل أمد الأزمة السياسية والعسكرية، في ظل غياب إجراءات دولية فعالة.
ثغرات دولية
توضح وثائق التحقيق أن أنظمة التعقب الدولية تعاني ثغرات خطيرة، خصوصًا عند تعطيل نظام "AIS" أو التلاعب ببياناته، ما يسمح بمرور السفن المشبوهة دون رصد، ويمكّن شبكات التهريب من العمل بسهولة كبيرة يصعب تتبعها.
ويتسبب هذا الواقع في زيادة أعباء اليمنيين الذين يعانون من ارتفاع أسعار الوقود وتدهور الخدمات الأساسية، بينما تستغل المليشيا موارد التهريب لتعزيز قبضتها الأمنية وتوسيع شبكات نفوذها داخل المؤسسات والمجتمعات.
وحذرت منصات رقابة بحرية من أن تجاهل المجتمع الدولي لعمليات الاحيال والتلاعب التي تنفذها مليشيا الحوثي سيؤدي إلى اتساعها، بما يشكل تهديدًا مباشرًا لأمن الملاحة في البحر الأحمر ويزيد من حالة عدم الاستقرار في اليمن والمنطقة.